لارا مصطفى صالح تكتب : عيلة ما يعلم بيها إلا ربنا!
هذه السنة الخامسة عشر بتوقيت غربتي، وهذه روح تشرين الثالثة والأربعين بتوقيت عمري. وهذه الساحرة تغني: “بعدك على بالي…يا قمر الحلوين…يا سهر بتشرين…يا دهب الغالي”
ثلاث نجمات في حياتي أضاءت شجر تشرين وأذابت العتمة عن فصل المطر..
إلزا.. ١٠/٣٠
والدي؛ أمد الله في عمره من عشاق أراغون وأدبه، ولشدة عشقه لشعره، عشق اسم إلزا. فقرر عندما تزوج إذا ما رزقه الله مولودة أنثى سيسميها إلزا. أنجبت والدتي مولودتها الأولى، إلا أنها كانت من جبهة اليسار المعارض للإسم “لغرابته”! فكان الإسم البديل حاضرا لديه وسمى المولودة الأولى “لارا” تيمنا ببطلة رواية دكتور جيفاكو.
حملت والدتي للمرة الثانية وبقي اسم إلزا حاضرا في ذهن والدي، وأصر إن كانت المولودة أنثى ستسمى إلزا! إلا أن أمي لم تيأس وحاولت ممارسة حقها في الرفض للمرة الثانية. بيد أن الفيتو أتاها حاسما وصريحا من صديق والدي الشاعر الجميل “علي فودة” رحمه الله؛ وكان هو أيضا من أشد المعجبين بأراغون، فقال لوالدي في إحدى رسائله حيث كان قد غادر عمان حينها: سميها إلزا يا مصطفى، تردّش ع حد! وولدت طفلة على هيئة قصيدة رائعة الجمال، عيناها بزرقة عيني إلزا أراغون، بل وأجمل، وسميت إلزا!
رفيقتي في الحاكورة والمدرسة وزميلتي في اللسان الطويل وفصيلة الدم. مظلة نجاتي كلما وقعت وحارسة وصيّتي هي.
تامر … ١٠/١٤
ظلي وحارس أسراري وخطواتي الزائغة وشريكي في السهر والعصبية. ساخر متمرس، قرر وهو ابن ٦ أعوام أن يغير اسمه من تامر إلى رامي، شرح له والدي حينها بأن الأمر ليس من السهولة بمكان وأقنعه بأنه إذا ما كبر وتزوج ورزق بولد أن يسميه رامي. اقتنع تامر وأصبحت كنيته منذ ذلك اليوم (أبو رامي)!
حين كبر أبو رامي وأصبح فتى، أمسكت يده أول ما اشتدت بسيجارة! تسللت خلفه إلى سطح العمارة واسترقت النظر، استنشق الدخان مستبشرًا بدقيقة ممتعة. قبضت عليه متلبسا، دحرجته عن الدرج كما دحرجت سؤالي بغيظ: (من إيمتى بتدخن يا محترم وعلى حساب مين؟.. طيب بس تشتغل عالأقل)! ذكرني بها بالأمس وقال لي؛ على قد ما بحبك إلا أني لن أنسى لك تلك (القتلة) ما حييت.
يارا.. ١٠/١٦
عندما علمت بحمل أمي ب “يارا الجدايلها شقر”، أعلنت الثورة عليها وأبي: تمضي الحياة بنا إلى وجهة غير معلومة… وانتوا بتقرووا تجيبولنا فرد سادس ينازعنا في حقنا بالحياة!!! ليه؟.. كنت في الثالثة عشر من عمري، “بومة من يومي”!
يارا…آخر العنقود؛ الأنقى سريرة والأبهج حضورا بيننا والأجمل والأطول كذلك.. أغبطها على تفكيرها الهادئ الذي يجنبها زلات اللسان عند الغضب، واتزانها الذي يحملها لما هو أعمق من سخافات الحياة.
وطبعا لا تكتمل الصورة ولن تكون الحياة بتشرينها وارفة بالأمل والجمال من دون حضور “تمارا” ضحكة الدنيا وزهرة تموز . وقمر كانون ومسعفي من وخزات شوك الغربة “فراس”.
لم نكن يوما أخوة فحسب، بل أصدقاء أكثر مما ينبغي، ولا تسألوا عن صداقتنا فهي أعمق من أي وصف. بيننا من الذكريات ألف خطأ وصواب، ومليون أغنية ودمعة، وضحكات أكبر من ذاكرتي، وحنين يراوح بين المعنى والعبث وسؤال لا بد منه (وينك يا ستّي؟).
لولا أرواحكم المصوبة نحو قلبي لأحرقته نيران الخذلان والخيبة.. لي وحدي تشرين الغياب ولكم روح الحياة. سنة حلوة وأنيقة تليق بكم “إلزا، تامر ويارا”.