شاكر فريد حسن يكتب : المرأة العربية بين الواقع والمأمول
لا ريب ان المرأة من اكثر الطاقات تهميشاً في عملية التنمية في مجتمعاتنا العربية الشرقية. فهي مستلبة فكرياً، وأسيرة التقاليد والاعراف السائدة والمفاهيم الاستهلاكية البرجوازية والرأسمالية، التي جعلت منها متاعاً وسلعة في سوق الدعايات التجارية والافلام الاباحية وصالونات التجميل، واحياناً في سوق النخاسة. والمرأة العربية تعاني من رجعية في التعامل معها كعنصر فاعل في المجتمع، وتكابد الظلم والقهر المركب، وتتعرض للاضطهاد الطبقي والاجتماعي والانساني.
وبالرغم من ان المرأة خطت خطوات كبيرة على طريق تحررها الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وتمردت على التقاليد والنظم والقوانين الاجتماعية الجائرة، وخرجت من وراء الاسوار والاسلاك الشائكة والجدران المغلقة والاغلال الحديدية، التي تكبلها، لتتعلم وتعمل وتنتج وتساعد في حمل اعباء البيئة والاسرة والاطفال، وتقود السيارة، وتجلس في المقاهي والمطاعم، وتدخن النرجيلة، وتشاهد الافلام في دور السينما، لكن مع كل هذ فأن النظرة الذكورية والموقف الدوني السلبي تجاه المرأة لم يتغير وبقي على حاله.
وهذا ان دل على شيء فيدل على الازدواجية وانفصام الشخصية لدى ابناء مجتمعنا، والمثقفين منهم على وجه الخصوص، في تعاملهم واهانتهم للمرأة. فمن جهة يؤمنون بحريتها ومساواتها وحقوقها، ولكن في التنفيذ والممارسة على ارض الواقع يتعاملون معها كماكنة تفريخ وأداة للمتعة واشباع شبقهم وغريزتهم الجنسية.
ولا جدال في ان مجتمعنا شهد تحولاً وتغيراً في المفاهيم والمنظومة القيمية والسلوك الاجتماعي، لكنه للأسف لا يزال يتشبث بالأفكار والمعتقدات والآراء والمواقف التقليدية المحافظة المشككة بقدرات المرأة وطاقاتها الابداعية، وهي مفاهيم متغلغلة في عمق مجتمعنا. فكم من امرأة قتلت بحجة الحفاظ على “شرف العائلة”، وكأن الشرف متعلق بها دون الرجل، وكم فتاة حرمت من الدراسة الجامعية بسبب الاختلاط بين الجنسين ؟!.
والواقع ان المرأة نفسها تتحمل قسطاً كبيراً من المسؤولية في استمرارية النظرة الدونية تجاهها، اذ انها راضية بما غسل واقنع عقلها المنسجم مع تفكيرها السطحي، وعدم ايمانها بحقوقها ودورها الاجتماعي والسياسي، وتعاملها مع نفسها جسداً وفراشاً وديكوراً ومكياجاً ولباساً وعطوراً وشكلا خارجياً وزينة وجمالاً تتباهي به في الاعراس والمناسبات الاجتماعية، وهمها في الحياة الدنيا الارتباط بحبيب وشريك حياة على جواد ابيض وانجاب الاطفال، ولا تسعى الى اثبات مكانتها وتحقيق ذاتها ونيل حريتها وتحصيل حقوقها الاجتماعية ومساواتها مع الرجل.
وبينما التيارات الظلامية والاصولية السلفية تساهم بقسط وافر بتكريس الثقافة الذكورية والنظرة السلبية تجاه المرأة، والتمسك بالرواسب الثقافية والاجتماعية، التي تضع المرأة في موضع القصور، واشاعة الافكار التقليدية الرجعية التقليدية، الا ان الاسلام في حقيقته وجذوره وضع الاسس والمرتكزات لتحرر المرأة وصيانة عفتها، فكرمّها وأنصفها وأعلى من شأنها ومنحها حقوقها، واسترد جزءاً من كرامتها، وأمر بأن تعامل احسن معاملة، وهذا الامر يتجلى لنا في نصوص قرآنية كثيرة. لكن للأسف الشديد ان هنالك فرق بين النظرية والتطبيق، فما ورد في النص القرآني لا يطبق في مجتمعاتنا العربية والاسلامية، التي انحرفت عن مبادئ وقيم واسس الدين المستقيم، وانما تتحكم في ذلك العادات والتقاليد الجاهلية المتوارثة. وقد وجه الاسلام اهتمامه نحو المرأة منذ طفولتها ووهبها حق الحياة عندما قضى على اكبر جريمة ارتكبت بحق النساء في العصر الجاهلي، وهي عادة “وأد البنات”. كما ان الاسلام منح المرأة حقها في العلم والعمل والخروج والسفر وتقلد المناصب الادارية العالية واستقبال الضيوف واختيار شريك الحياة وتنظيم النسل وطلب الطلاق في حالات معينة وكفل حقها في المهر والنفقة، وسنّ القوانين التي تصون كرامتها وتمنع استغلال جسدها واستلاب عقلها وترك لها حرية الخوض في مجالات الحياة، ولكن المجتمع يصر على سلبها كل هذه الحقوق، ولا يكتفي بذلك بل يضطهدها ويقمعها ويستلبها.
كذلك فأن الاسلام كرّم المرأة بأن جعل لها حقاَ شرعياً في الميراث، وهو حق ثابت منذ ان تكونت جنيناً في بطن امها، ويظل هذا الحق لها مهما كانت ظروفها المادية. لكن هذا الحق ضائع لدى اكثرية القبائل والأسر العائلات العربية، حيث تحرم المرأة من هذا الميراث او التركة، وغالباً ما يترتب على هذا الحرمان من نصيبها وحصتها التهديد والوعيد والتنازل عن هذا الحق الشرعي والديني والاخلاقي والانساني الطبيعي، عدا الشكاوى في المحاكم وانقطاع صلة الرحم بين الاخوة والاخوات.
غني عن القول، ان المرأة انسان وحقوقها من حقوق الانسان، وتحريرها مرهون بدرجة تحرر الرجل بالأساس، واي اعتداء على كرامتها او اضطهادها هو مس بالإنسان، فالمبدأ لا يتجزأ انسانياً، ولذلك فان التعامل مع المرأة مجرد جسد او وعاء جنسي وسط نسق من المفاهيم والقيم الثقافية والمجتمعية، فيه امتهان واحتقار لها ويسلبها شخصيتها وكينونتها وانسانيتها.
خلاصة القول، ان مجتمعاتنا العربية بحاجة الى تطوير وترسيخ النظرة التقدمية الانسانية العصرية والحضارية للمرأة، ومن الضروري ان تتخلص الاوساط المثقفة الطليعية، الفكرية والسياسية، من ازدواجيتها وعزلتها ومعاييرها، وتشديد النضال الدؤوب والمثابر لأجل التغيير ودعم المرأة ومساندتها والوقوف الى جانبها في سبيل تحررها واعلاء مكانتها، ومحاربة كل الافكار الرجعية الظلامية، التي ترى فيها ناقصة عقل ودين، ومجرد اداة للمتعة والجنس وتربية الاطفال، وتقف حجر عثرة امام تقدمها ونهوضها الاجتماعي الحضاري، فالمعيار الاساسي لتقدم ونهضة المجتمع يقاس بالموقف من المرأة وحريتها، ولا تحرر لها الا في اطار الحركة السياسية والاجتماعية النهضوية، وقضية تحررها جزء لا يتجزأ من قضية التحول الديمقراطي المجتمعي العصري والحضاري والمدني.