الدكتور محمد عبد الخالق الزعبي يكتب: الآثار القانونية لفيروس كورونا المستجد على الالتزامات التعاقدية

بقدر ما أصبح هاجس فيروس “كورونا” المستجد موضوع تتبع دقيق ويومي من طرف المجتمع الدولي بكل مواقعه ومسؤولياته، بالنظر إلى تهديده الواضح للصحة العالمية، فإنه يقتضي منا التعامل مع كل جوانبه وآثاره الأخرى الممكنة والمحتملة بكثير من الجدية والموضوعية والمسؤولية بعيدا عن الهلع والقلق والتهويل.

فقد أثارت مخاطر الأوبئة والأمراض العديد من الإشكالات ذات الأبعاد القانونية والاقتصادية والاجتماعية في ارتباطها بالأمن الصحي العالمي وبالعوائق والإكراهات الناجمة عنها في مجال تبادل السلع والخدمات، مرورا بوباء SRAS سنة 2003 و(H1N1) سنة 2009 أو (EBOLA) سنة 2014 ليتجدد النقاش اليوم على المستوى الدولي بخصوص آثار فيروس(CORONA) المستجد على بعض المعاملات التجارية والعقود الشغلية والالتزامات المالية والضريبية، حيث دفعت عدد من المؤسسات والشركات العالمية خاصة الصينية والأمريكية منها المتخصصة في مجالات مختلفة مثل صناعات السيارات والنقل الجوي والمعلوميات والمواد البترولية والغازية، بوجود حالة (القوة القاهرة) من أجل التحلل من التزاماتها التعاقدية تجاه زبنائها وعدم أداء غرامات التأخير أو التعويض عن التأخير في التنفيذ أو عن استحالته.
وهو ما جعل عددا من الدول تبادر خلال الأيام القليلة الماضية إلى تبني هذا الموقف ودعمه، حيث أعلن وزير الاقتصاد والمالية الفرنسي يوم 28 فبراير الماضي بعد اجتماع مع الشركاء الاقتصاديين أن فيروس “كورونا” يعد قوة قاهرة بالنسبة للمقاولات، مؤكدا أنهم لن يطبقوا غرامات التأخير في التنفيذ على الشركات المرتبطة بعقود مع الدولة، وطرح إمكانية اللجوء إلى الخدمات الجزئية وإعطاء مهل لأداء الأعباء الاجتماعية والضريبية بالنسبة إلى المقاولات التي يثبت تضررها من آثار هذا الوباء، وذلك بهدف حماية الاستقرار بشكل مسؤول وعدم السقوط في مغبة القلق والهلع الاقتصادي.

كما أكدت هيئة تنمية التجارة الدولية الصينية أنها ستمنح شهادات (القوة القاهرة) للشركات الدولية التي تكافح من أجل التأقلم مع تأثيرات عدوى فيروس “كورونا”، خاصة الشركات التي ستستطيع تقديم مستندات موثقة لإثبات التأخير أو تعطل وسائل المواصلات وعقود التصدير وإعلانات الجمارك وغيرها.

مبادرات وإجراءات لا تحجب عن المتتبعين ظهور بوادر جدل ونقاش قانوني اقتصادي حول موضوع القوة القاهرة الذي يعد من المواضيع المعقدة التي تحتمل كثيرا من التأويلات واختلاف وجهات النظر حول مدى توافر شروط هذه القوة القاهرة من عدمه، خاصة عندما نكون أمام وباء صحي عالمي تختلف آثاره بين السلبية والإيجابية باختلاف المواقع والمؤسسات، وباختلاف الظروف المحيطة بالتعاقدات المتنازع بشأنها، إذ إن بعض القطاعات على خلاف الباقي عرفت نموا كبيرا بسبب انتشار هذا الفيروس، خاصة تلك المتعلقة بالتجارة الإلكترونية.

والأكيد أن عددا من العقود سواء التجاريه او المقاولات او حتى الخدمات…الخ في علاقاتها الاقتصادية ومبادلاتها التجارية والدولية ستصطدم بكثير من العقبات التي يتعذر الخوض في تفاصيلها التقنية والمالية، والتي ستؤثر سلبا على عدد من التزاماتها وإنتاجياتها وخدماتها، حيث طالعنا عبر عدد من الصحف والمواقع الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي إخبارا عن إلغاء وتأجيل عدد من الرحلات الجوية والرحلات السياحية ، والأنشطة والاجتماعات المنشآت السياحيه والتجاريه والمولات…الخ ؛ وهو ما تضرر معه الشركاء والمؤسسات المعنية بها، فضلا عن عقود المقاولات والتجاره الدوليه التي ترتبط أنشطتها التجارية بشكل كبير بالمؤسسات والشركات الكبرى المورده حول العالم واغلبها صينية التي بدأت تأن من ركود معاملاتها، مما سيثير النقاش مجددا حول نظريتي القوة القاهرة والظروف الطارئة ومدى إمكانية استفادة هذه المؤسسات والشركات المورده او المصنعه للتحلل من التزاماتها العقدية وتعديلها أو التخفيف منها.

فنحن اذا أمام إشكال قانوني اقتصادي يفرض علينا الوقوف على حقيقته.

والسؤال الذي يطرح نفسه ما علاقة وباء كرونا بالقوة الملزمة للعقد، واثر ذلك على الالتزامات التعاقديه بشكل عام؟

لا شك في أن فكرة “العقد شريعة المتعاقدين” تنبني على ثلاث ركائز: أولها قانوني قوامه مبدأ سلطان الإرادة، وثانيها أخلاقي يتمثل في احترام العهود والمواثيق، وثالثها ذو طابع اجتماعي واقتصادي يترجمه وجوب استقرار المعاملات.وهي فكرة توجب احترام مضمون العقد سواء من طرف المتعاقدين أو من جانب القضاء.

لكن الأوبئة الصحية كواقعة مادية صرفة تكون لها آثار سلبية واضحة يمكن رصد ملامحها وتتبع اثرها على العلاقات القانونية بوجه عام والعلاقات التعاقدية على وجه الخصوص حيث تتصدع او تتراخى هذه الروابط والعلاقات التعاقدية نتيجة الركود الذي يصيب بعض القطاعات الاستثمارية مما يجعل من المستحيل أو على الأقل من الصعب تنفيذ بعض الالتزامات أو يؤخر تنفيذها.وهو وضع قد يمس المؤسسات الصناعية والتجارية الخاصة والعامة، الصغيرة والكبيرة والمتوسطة على حد السواء، بالنظر للارتباط الكبير والوثيق بين أنشطتها حيث يكفي أن تصاب إحداها بأزمة اقتصادية لكي تهدد الأخريات بدورها .

ومن هنا، تبنى الفكر القانوني والاجتهاد القضائي عبر العالم آليتين تعتبران من الوسائل الحمائية للمدينين الذين يصبحون مهددين بالإفلاس أو على الأقل أصبحت ذمتهم المالية مصابة بتصدع خطير.

هاتان الآليتان هما نظريتا (القوة القاهرة والظروف الطارئة) التي ترميان إلى علاج الحالات التي يصير فيها الالتزام التعاقدي مستحيل التنفيذ (القوة القاهرة) أو صعب التنفيذ (الظروف الطارئة).وهما في الأصل يعدان تطبيقا لمبدأ أخلاقي عام مفاده أنه لا تكليف بمستحيل أو لا تكليف بما يتجاوز الطاقة العادية للإنسان.
ومن الناحية الموضوعية – كما أكد على ذلك الفقه القانوني- فهما ترجمة للعلاقة الوطيدة بين القانون والاقتصاد من جهة أولى ومبادئ الأخلاق من جهة أخرى.
فكما نعلم لكي يسأل المدين عقديا يجب أن يكون قد أخل بالتزامه العقدي، ومن صور ذلك الإخلال عدم التنفيذ في الوقت المتفق عليه وهو ما يتم وصفه بالتراخي او بالتماطل؛ غير أن هذه المسؤولية العقدية قد يعفى منها المدعى عليه من حيث قواعد المسؤوليه المدنيه إذا ما تمسك بأحد الأسباب الأجنبية عنه والتي تمثل في جوهرها كل الظروف والوقائع المادية أو القانونية التي يمكن للمدعى عليه في دعوى المسؤولية المدنية أن يستند إليها لكي يثبت أنه لاعلاقة له بالضرر وان الضرر لا ينسب إليه ولم يتدخل له فيه وإنما هو نتيجة حتمية لذلك السبب.وخارج عن الإرادة. ولذلك تمثل القوة القاهرة أهم صور هذا السبب الأجنبي.

من جانب اخر: هل يعد فيروس “كورونا” أحد تطبيقات القوة القاهرة؟

ما مفهوم وشروط القوة القاهرة؟

“القوة القاهرة هي كل أمر لا يستطيع الإنسان أن يتوقعه، كالظواهر الطبيعية، (الفيضان والجفاف والعواصف والحرائق والجراد)، وغارات العدو وفعل السلطة، ويكون من شانه أن يجعل تنفيذ الالتزام مستحيلا”.
فالقوة القاهره هي صورة من صور السبب الأجنبي الذي ينفي علاقة السببيه بين فعل المدعى عليه وبين الضرر الذي لحق بالمدعي.
وعرفت ذلك بانها كل حادث خارجي عن الشيء لا يمكن توقعه، ولا يمكن دفعه مطلقا.
وعرفت القوة القاهره كذلك تعريفا خاصا في عقود واتفاقيات خاصة على أنها كل ما يحدث قضاء وقدرا او اي تمرد او عصيان او شغب او حرب او اضراب وغير ذلك من اضطرابات عماليه او حرائق او فياضانات او اي سبب آخر ليس ناتجا عن خطأ او إهمال من جانب المتعاقدين.

أما شروطها القانونيه او التشريعية الأساسية والتي استقر عليها الفقه فهي ثلاث شروط

– أولا: عدم امكان التوقع.اي أن يكون الحادث غير ممكن التوقع من جانب اشد الناس يقضة وبصرا بالامور وان يكون عدم إمكان التوقع مطلقا لا نسبيا،وعدم امكان التوقع يرتبط باستثنائيه وندرة وقوع الحادث أو عدم مالوفية وقوعه.

– ثانيا: استحالة الدفع، أي أن يستحيل دفعة وان تكون الاستحاله مطلقه وان تكون تامه وعامه.

– ثالثا: عدم صدور خطأ من المدين المتمسك بالقوة القاهرة. وإنما لسبب أجنبي بأيد له فيه.وقد نصت العديد من القوانين على اعفاء المدين من تنفيذ التزامه عينيا في حال توافر القوة القاهرة.( كعقد ايجار السفينه، وعقد ايجار الاراضي الزراعيه،وعقد نقل الاشياء،وعقد النقل البحري للبضائع،وعقد العمل….الخ)

وكل شرط من هذه الشروط اختلفت بشأن تطبيقه النظريات الفقهية والتشريعات المقارنة، لكن من الناحية المبدئية يمكن أن نستخلص منها أن انتشار وباء صحي كواقعة مادية قد تكون قوة قاهرة كلما كان لها تأثير مباشر على عدم تنفيذ الالتزام التعاقدي من طرف المدين إذا ما توفر لها شرطان أساسيان وهما عدم التوقع واستحالة الدفع بالكيفية التي سبق توضيحها أما الشرط الثالث المتمثل في خطأ المدين فيظل في هذه الحالة بالخصوص حالة فيروس “كورونا” عنصرا غير مطلوب منطقيا؛ بل إن الظروف المحيطة بانتشار الفيروس أو تلك المتولدة عنه بصفة مباشرة أو غير مباشرة قد تكون بدورها عبارة عن قوة قاهرة ومن ذلك مثلا وقف استيراد بعض المواد الأولية أو رفع أسعار بعضها الآخر.

فالقوة القاهرة لم تعد محصورة على وقائع محددة دون غيرها فكل واقعة تحققت بشأنها الشروط وجعلت التنفيذ مستحيلا إلا وعدت حالة من حالات القوة القاهرة.

ويبقى بطبيعة الحال المدين هو الملزم بإثبات توافر هذه الشروط. إثبات يكون على سبيل اليقين لا الشك والاحتمال وتعطى السلطة التقديرية لقضاة الموضوع في ذلك،
حيث استقر محكمة التمييز الاردنيه أن قيام القوة القاهرة في ظروف تنفيذ العقد هو من الامور الواقعيه التي تقدرها محكمة التمييز.
اذا بالقضاء هو الذي يقدر اذا متوافرة عناصر القوة القاهرة ام لا،كونها مسألة واقع.
المدخل الثالث: موقف القضاء المقارن من تأثير الأوبئة والأمراض على تنفيذ الالتزامات العقدية (إشكاليات الزمان والمكان)

إشكالية الزمن:

السؤال الذي يطرح نفسه هو متى يتم تقدير شرط “عدم توقع الحدث”، أي فيروس “كورونا” من طرف القضاء؟

مبدئيا، يتم ذلك بالنظر إلى تاريخ إبرام العقد وهو ما قررته محكمة النقض الفرنسية بتاريخ 29/12/2009 بمناسبة قضية تتعلق بوباء (chukungunya) الذي ظهر شهر يناير 2006 معتبرة أن شرط “عدم التوقع” الذي يبرر فسخ العقد لم يتحقق ما دام أن الاتفاق تم شهر غشت سنة 2006 أي بعد ظهور الوباء بأشهر.
توجه قضائي نستشف منه أن هذا الإشكال لن يطرح الآن بمناسبة فيروس “كورونا” بالنسبة إلى العقود القديمة؛ لكن التساؤل سيطرح بالنسبة للعقود التي أبرمت بعد ظهور هذا الوباء. وهنا أيضا نتوقع حدوث نقاش جاد حول التاريخ الواجب اعتماده لإعلان ظهور فيروس “كورونا”، هل تاريخ إعلانه بالصين؟ أم بالبلد الذي توجد به الشركة التي تتمسك بالقوة القاهرة؟ أم التاريخ الذي حددته منظمة الصحة العالمية؟

إشكالية تحديد المناطق المصابة بالوباء؟

إن مسألة تحديد المناطق المصابه بالوباء ليست بالسهلة أو اليسيرة لاختلاف المعايير، وقد أثير هذا الإشكال سابقا في نزاعات تتعلق بقضايا السفر والتنقل حيث تم رفض السفر إلى مناطق قريبة، ومحاذية لأماكن وصفت بالخطيرة لانتشار وباء صحي بها، حيث اعتبرت محكمة باريس أن الخطر الصحي لم يكن قاهرا وموجودا بدولة التايلاند وأنه لم يكن مقبولا اعتبار السفر إلى هذا البلد مستحيلا (حكم بتاريخ 4/5/2004).

وفي حكم آخر بتاريخ 25/7/1998 أكدت نفس محكمة باريس أن توقف الطائرة ببلد مجاور لمنطقة تعرف انتشار وباء الطاعون لا يشكل خطرا يفسر انه قوة قاهرة.
من خلال ماتقدم نحن، أمام وضع صحي عالمي يثير الكثير من التساؤلات، والإشكالات ذات بعد اقتصادي وقانوني وتتطلب منا مقاربة حكيمة تضمن التوازن العقدي وتكرس الدور الأساسي للقضاء في تحقيق الأمن القانوني والاجتماعي المنشود.

 

 

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى