سهير جرادات تكتب : للخلف در
سهير جرادات- هناك مصطلح عسكري، يعرفه كل من خدم هو أو أحد أفراد عائلته في الخدمة العسكرية ، وهو : ” للخلف در ” ، حيث يستخدم في التدريبات العسكرية للمشاة ، حين يطلب قائد السرية من العسكر في الطابور القفز في مكانهم للأعلى ، وهم يضعون أيديهم خلف ظهورهم ، وفي وضع القرفصاء ، إلى أن تنهك قواهم ، وعندما يكتفي القائد من انهاكهم ، وينزعج من ” عجة الغبار” التي تحدثها أرجلهم ، يصدر الأوامر لهم : قف ، للخلف در ! سريعا .. وهي أمر لهم بالالتفاف السريع والرجوع حيث كانوا ، وهم يسيرون ببطء وفي حالة القرفصاء .. ليذكرني هذا التمرين بواقع حالنا في مكافحة الفساد الذي يتفشى في البلاد وبين العباد الذين لا يتقون رب العباد في وطنهم .
بين الفترة والأخرى يشاع الحديث عن مكافحة الفساد ، وشهدنا تحويل كبار المسؤولين للمحاكمة العسكرية أو النظامية ، ومنهم من تمت محاكمته وهو يرتدي البدلة الزرقاء ، وتم اصدار حكم بحقهم بالحبس واسترجاع بعض من الأموال التي اتهموا باستثمارها وظيفيا ، وبعضهم ورغم الحكم عليهم إلا أنهم مازالوا أحرارا لم يسجنوا ولم يعيدوا الأموال التي اتهموا بها ، ومنهم من تم ارساله خارج البلاد خلال فترة سجنه لتلقي العلاج خوفا وحرصا على سلامته !! .. ورغم كل هذه المحاكمات والأموال المنهوبة المعادة ، إلا أن مديونيتنا في ارتفاع مستمر.
كنت قد كتبت سابقا عن وجود بابين لهيئة مكافحة الفساد قبل تغيير اسمها إلى هيئة النزاهة ومكافحة الفساد: أحدهما مخصص للمواطنين من أصحاب الحس الوطني ممن يدخلونه ليساهموا في الإبلاغ عن شبهات فساد ، والباب الآخر خصص لكبار الفاسدين ، وأفاد رئيس الهيئة الأسبق أنه من المنتظر قريبا أن يدخل منه أحد رؤساء الوزراء السابقين ، إلا انه لم يدخل لانه عُين ( بعد أيام ) في منصب حساس جدا في مؤسسة مقابل مخابز رغدان ، لذا فإن مكافحة الفساد في بلادي تعد في غاية الصعوبة .
مكافحة الفساد في بلادي لا يشتد وقعها إلا على قارئ عدادات الكهرباء والماء أو المسؤول عن “بُكسْ ” الهاتف الأرضي، ومن سولت له نفسه بقبول الرشوة ببضع دنانير ، وهذا كل ما يطبق من قانون ” من أين لك هذا ؟! ” الذي أطاح بواضعه رئيس الوزراء الذي فهم الرسالة خطأ عندما ظن بأنه مطلوب منه مكافحة الفساد على المطلق، ليجد أن خيوط الفساد في الأردن ( مشلبكة ) وعلى أعلى المستويات ، وستنتهي نهايات غير محمودة ، ولجهات لا يمكن الوصول اليها ، أو ملامستها .
مكافحة الفساد لا تتعدى كونها مضيعة للوقت ، وتعبئة لوقت الفراغ واشغال الناس والهائهم ، وتحويل انظارهم عن أمور أخرى ، وايهامهم بأنهم يخافون على البلد ، وأنهم لا يقبلون “الحال المايل” ، والبلد مش مزرعة ولا غابة .. وفي حقيقة الأمر الموضوع ليس أكثر من تنفيذ ( تمرين وهمي ) ، ينهك المؤدين ويثير الجلبة في المكان ، ويُحدث زوبعة، وفي النهاية لا يتحقق أي شيء سوى “فركة إذن ” للفاسد، الذي يخرج عن الخط ، ويلقن درسا لتقويم اعوجاجه .. وكل ما نستفيده من مكافحة للفساد هو الكم الهائل من الغبرة والعجة التي يحدثونها في المكان ليس إلا ، لتعود الأمور إلى سابق عهدها فور أن يقرر القائد اصدار الأوامر ، ويقول كلمته السحرية : ” قف ، للخلف در” .. ليعود كل شيء إلى ما كان عليه.
وبصراحة ، إن المواطن الأردني تعايش مع حالة تفشي الفساد في البلاد ، ومتعايش مع الفاسدين، الذي يرى جلهم عبر شاشات التلفزيون ، وهم يترأسون الجاهات ويتصدرون المجالس في دور العزاء .. يعرفهم ويدرك أن محاربتهم تحتاج إلى تتبع خيوط الفساد، التي قد تقودنا نهاياتها إلى مكان من الصعب إدانته ، لذا من الصعوبة تتبع بدايات أو نهايات الفساد، التي تعود إلى ” ماسورة الخيط ” نفسها.. الفساد والفاسدون في بلادي نائمون.. لعن الله من ايقظهم .. ويبقى ملخص مكافحتنا للفساد في بلادي لا يتعدى مفهوم عبارة : “مكانك سر ، وللخلف در”.