بلال حسن التل يكتب: شعب ينتحر بالتعليم
بلال حسن التل- تثير نتائج التوجيهي الشهية للحديث عن علاقة مجتمعنا بالتعليم فمما لا جدال فيه أن النهضة التعليمية التي شهدها بلدنا، كانت مدخلاً للنهوض الشامل للمجتمع الأردني، الذي صارت قواه البشرية المتعلمة رأس ماله الحقيقي، قبل أن تنقلب الآية ويصبح التعليم مشكلة مولدة للعديد من المشكلات الخطيرة التي يعاني منها بلدنا، فالتعليم بالنسبة للمجتمعات مثل الدواء، إن لم يؤخذ بالكمية المناسبة وبالتوقيت المناسب صار خطراً، ومثلما أن هناك اشخاص ينتحرون بتناول كميات كبيرة من الأدوية، فإننا في الأردن ننتحر بالتعليم الفاسد تارة، وغير الملائم تارة ثانية، وبسبب سوء التعامل مع التعليم تارة ثالثة، وكل ذلك لأننا لم نعد نحسن التعاطي مع التعليم.
كثيرة صور انتحار مجتمعنا بالتعليم أولها أننا ربطنا التعليم بالرياء الاجتماعي، فدفعنا الآلآف من أبنائنا إلى دراسة تخصصات لا يرغبون بها، ولا ينجحون بأدائها، لمجرد أن أبائهم يريدونهم أطباء أومهندسين أو … الخ مما أنتج الكثير من الآفات الاجتماعية, أولها أن بعض المهن صارت تعاني من نسب بطالة عالية, ففي ظل انسياقنا للرياء الاجتماعي لم ننتبه إلى حاجة السوق، فصار لدينا فائضاً كبيراً في الكثير من المهن, مما أدى إلى البطالة فيها من جهة،والى خرابها بسبب المنافسة غير الشريفة بين العاملين فيها وصراعهم على مصدر الرزق من جهة ثانية.
عدم مراعاة حاجة السوق حولت التعليم إلى مصدر للبطالة، ترتفع أكثر مع ارتفاع درجة الشهادات العلمية، لأننا نتعامل مع هذه الدرجات ليس من باب البحث العلمي والرغبة بالتطور، بل لتحسين الراتب، والحصول على علاوة الدرجة العلمية، وهو الحرص الذي سبب تكاثراً سرطانياً لحملة درجة الدكتوراه في بلدنا في تخصصات لا نحتاجها, مما جعلها مدخلاً من مداخل البطالة بشقيها المعلن والمقنع الذي يرهق الموازنة العامة للرواتب.
بالإضافة إلى تنامي نسبة البطالة فقد قتلنا رغبات وميول وقدرات الكثير من شبابنا, الذين لو تركنا لهم حرية الاختيار لكانوا مهنيين وتقنيين متميزين، أو على الأقل عمال مهرة, نستغني بهم عن الكثير من العمالة الوافدة التي تستنزف اقتصادنا، كما أدى الخلل في علاقتنا بالتعليم إلى أننا دمرنا ريفنا ثم زراعتنا, ثم مدننا, عندما حولنا الكثير من أحيائها إلى عشوائيات مكتظة, مما ساهم أيضاً بتفسخ منظومتنا القيمية والاخلاقية.
ومثلما أن ربط التعليم بالرياء الاجتماعي هو نوع من أنواع الانتحار, كذلك فإن تعدد مدارس ومناهج وفلسفات التعليم التي سادت في بلدنا، بعيداً عن قانون التربية والتعليم وفلسفته وخارج سلطته, فتح هو الآخر باباً واسعاً من أبواب تمزيق المجتمع, وتماسكه ووحدة فلسفته التربوية والتعليمية، بعد أن صار لكل مدرسة من مدارس التعليم الخاص فلسفتها وكتبها ومناهجها واللغة التي تُعلم بها بعيداً عن الرقابة الفعلية لوزارة التربية, من جهة ولأن التعليم صار تجارة والطالب مجرد زبون, وهذا نوع آخر من انواع الانتحار بالتعليم الذي نمارسه في بلدنا.