ايران وتركيا وغياب السند العربي وراء أزمات العراق السيادية والاقتصادية والأمنية والمائية
عبدالحميد الهمشري – يعتبر العراق البوابة الشرقية الذائدة عن حياض الوطن العربي في شطره الآسيوي ضد الأطماع الفارسية أولاً ، والتركية ثانياً ، والاستعمارية ثالثاً والصهيونية رابعاً .
الأطماع الفارسية في العراق لا حدود لها خاصة إذا علمنا أن دولة المناذرة العربية على أراضيه كانت خط الدفاع الأول عن حدود الدولة الساسانية وحين انهار هذا الخط لصالح الدولة العربية الإسلامية الناشئة والتي انطلقت من المدينة النورة ، انتهت هذه الدولة الساسانية في معركتين فاصلتين في القادسية بقيادة سعد بن أبي وقاص ونهاوند بقيادة النعمان بن المقرن ولم تعد لها قائمة بعد تلك المعركتين سوى محاولات فاشلة تهدف لعودة الهيمنة الفارسية عليه ولكنها تتجدد بين فينة وأخرى.
أما بالنسبة للأطماع التركية ، فقد بدأت خيوطها مع انتقال الأتراك القادمين من شمال شرق آسيا عبر أراضيه في عهد الدولة السلجوقية لتستقر في الأناضول ، ومن هناك توسعت وثبتت أركانها وتسلمت راية العالم الإسلامي لنحو أربعمائة عام ، بفعل انحياز حلب ودمشق للسلطان سليم الأول العثماني في صراعها مع المماليك على زعامة الإسلامي ، وهي تحاول الآن السيطرة على حلب مركز أحد سناجقة الدولة العثمانية الرئيسية التي تمتد حدودها من الموصل وحتى الاسكندرون وذلك لإعادة صياغة الواقع السياسي للدولة التركية مجدداً على حساب العراق وسوريا، خاصة وأنها على وشك التحلل من الشروط المذلة لمعاهدة الاستسلام التي وقعها منشئ تركيا العلمانية كمال اتاتورك الذي أسقط من حساباته مصير الولايات العربية التي كان لها الفضل في استمرار الدولة العثمانية كقوة عالمية فاعلة واستقرارها في حينه على مدى أربعة قرون متواصلة .. فتركت الولايات العربية التي كانت تتبع لها تتنازعها الدولتين المنتصرتين في الحرب العالمية الأولى بريطانيا وفرنسا لتندب الولايات العربية التي كانت تحت الحكم العثماني حظها من سوء الحال الذي آلت إليه ، بعد أن تركتها بلا مقومات وبلا بنى تحتية ولوجستية ، أسهمت فيها عصابة الاتحاد والترقي التي حاولت تتريك العرب انطلاقاً من عنصريتها التي اعتمدتها شأنها في ذلك شأن النازية الألمانية والفاشية الإيطالية والأنجلو سكسونية البريطانية والفرنجة الفرنسية .
وكذا الحال بالنسبة لبلاد فارس التي اعتمدت الجنس الآري بتسمية دولة الفرس بإيران والتي منذ سقوط آخر حاكم ساساني وهي تسعى لهدم الدولة العربية في العراق وكل بلد عربي وكان من حلقات تآمرها الدولة الصفوية التي قامت منذ أن بدأ الوهن يدب في عضد دولة الخلافة العباسية والشاهنشاهية ومن ثم الخمينية .. الخمينية التي تآمرت على العراق إلى جانب دول التحالف الغربي الصهيوني بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية فسارت على ذات النهج الصفوي المعتمد النهج الشعوبي الباحث عن أمجاد الماضي على حساب العرب في العراق ودول شبه الجزيرة العربية .. في ظل غياب السند العربي مما قاد لأزمات العراق السيادية والاقتصادية والأمنية والمائية.
العراق جراء هذين الخطرين الكامنين الفارسي والتركي وجد نفسه في حالة عراك دائم مع هذين الطامعين المتحالفين مع قطبي المعسكرين الشرقي والغربي ما أسهم في تقويض جهود الدولة العراقية الحديثة التنموية ، وشكل منفذاً لدول التحالف الغربي للعبث في أمن واستقرار العراق وعائقاً يحول دون بناء قدراته التكنولوجية والصناعية لدرجة أن العدو الصهيوني استغل انشغاله العراق في حربه مع إيران بضرب مفاعل تموز النووي في العام 1981 .
وعودة إلى بدء فإنه وبعد انهيار الدولة العثمانية جرى تكوين الدولة العربية الحديثة وفق ما اعتمدها رجال الإقطاع الذين ملكوا القدرة في طرح أنفسهم كبدلاء عن العثمانيين في إدارة شؤون البلاد في أغلب الأفطار العربية الناشئة ترسيخاً لنهج سايكس بيكو وبما يتوافق مع ما يخدم مصالحهم ، والذين ظلوا عقبة كأداء في حصول تغييرات هامة تصب في صالح الدولة العربية بل الوقوف وبصلابة ضد أي توجه نهضوي عربي كما حصل مع عراق الشهيد صدام حسين ومصر جمال عبدالناصر . . إذن فإن الدولة العربية الناشئة وجدت نفسها تعوم في بحر من التناقضات ، تعمل على إضعافها واستنزاف قدراتها للحيلولة دون تمكنها من بناء قدراتها للسير في ركب الحضارة العالمية وتفرض ذاتها على المجتمع الدولي كقوة عالمية أو إقليمية مؤثرة ولها دور في صنع القرار الدولي والإقليمي حيث استبدل لاحقاً رجال الإقطاع برجال رؤوس الأموال الذين وضعوا كل بيضهم في السلال الغربية خاصة الولايات المتحدة وسويسرا وشكلوا لوبي الفساد الذي يستشري في مختلف أرجاء الوطن العربي والإسلامي .
فالطامعون في العراق والوطن العربي كثر ولدواع استراتيجية ولوجستية واقتصادية ومناحٍ أخرى لا تتوفر في بلد آخر كما تتوفر فيه ، منها نفطه ونخيله وموقعه الاستراتيجي ومياهه والتي مجتمعة تشكل رافعة مهمة لرقيه وتقدمه وفرض إرادته على الآخرين إن كان زمام الأمور فيها بيد أهله وبسند عربي، لذا يسعون للهيمنة عليه للحيلولة دون رقيه وتطوره .. وهنا سأتناول جانباً في غاية الأهمية يشكل عائقاً في استمرار الحياة الزراعية والسكانية فيه ألا وهي أزمته المائية التي وراءها إيران وتركيا .
فإن كانت مصر هبة النيل والمصريين ، فإن دجلة والفرات والأنهار الأخرى التي تنبع من الأراضي الإيرانية وتصب بالعراق كنهر الكارون الذي يصب في شط العرب ونهر الزاب الكبير الذي يصب في دجلة بمنطقة كردستان العراق هي هبة العراق والعراقيين .. لهذا فإن إيران تسعى لحجب مياه الأنهار التي تنبع منها وتصب في شط العرب ونهر دجلة والفرات في العراق وذلك من خلال إقامة سدود على الأنهار التي تنبع في الدولتين إيران وتركيا الجارتين لدولة المصب العراق بهدف إيذاء شعب العراق والعمل على تصحير الأرض العراقية.. وقد بدأ جراء هذه السياسة يلوح في الأفق انعكاسات سلبية وخطيرة تقود لأزمة مياه شديدة على بلاد الرافدين وسوريا ، حيث يواجه العراق تناقصاً سريعاً بموارده المائية وسوريا في الجزيرة السورية ، فخلال السنوات العشر الأخيرة خسر العراق نحو (80%) من المياه المتدفقة إليه من إيران بعد قطعها نحو (35) رافداً رئيسياً ، وإقامة سدود على (7) روافد إيرانية أخرى ، لدرجة بلغت الوقاحة الإيرانية بعرض بيع العراق جزءاً من المياه التي قطعتها عنه رغم أنها تنهب ثرواته منذ الاحتلال الإيراني الأنجلو أمريكي للعراق مستغلة حالة الضعف العراقي ما بعد العام 2003 لفرض سياستها بسهولة على مجمل المصالح المشتركة في الشريط الحدودي من ماء ونفط وأراضي حيث عمدت إبان أزمة الاستفتاء على انفصال المنطقة الكردية عن العراق الى قطع رافد “الزاب الكبير”، أكبر الشرايين المغذية لدجلة ، كعقوبة سياسية برضا بغداد التي لم تعترض على الفعل الإيراني كما عملت على تغيير مسار أهم رافدين هما “الوند” و”الكارون”، ما اضرّ كثيراً بالمساحات الزراعية الواسعة في البصرة وواسط وديالى ، كما أقرت الحكومة الإيرانية كذلك في العام 2011 بناء 152 سداً ، للتحكم و”استنقاذ” المياه الداخلة الى العراق ، ، فيما الحكومة المركزية العراقية لم تشتكِ من السلوك الإيراني رغم تعارضه والاتفاقيات الدولية التي تنظم التدفق المائي بين البلدان.
وجراء هذه التصرفات الإيرانية لم يعد العراق يحقق أي اكتفاءٍ ذاتيٍ في محصولاته الاستراتيجية (القمح، الشعير، الرز، الذرة) فيما اندثرت زراعتي القطن والنخيل على نحو كبير ، فتراجعت مساحة زراعة الرز الى 40% وهذه لا تسد ربع الحاجة المحلية سنوياً.
أما بخصوص جذور أزمة المياه العراقية التركية فإنها تعود إلى عشرينيات القرن الماضي ، حيث شهد عام 1920 توقيع اتفاقيات “ثلاثية وثنائية” بين العراق وتركيا وسوريا لتقسيم المياه وفق المعايير الدولية المتبعة آنذاك ، والتي عززت لاحقاً بتوقيع معاهدة الصلح بين تركيا والحلفاء في لوزان عام 1923 تضمنت نصا خاصا يتعلق بمياه نهري دجلة والفرات ، حيث جاء في المادة 109 من هذه الاتفاقية “لا يحق لأية دولة من هذه الدول الثلاث إقامة سد أو خزان أو تحويل مجرى نهر من دون أن تعقد جلسة مشتركة مع الدول الأخرى .
وفي عام 1946 وقع الطرفان البروتوكول رقم (1) الخاص بتنظيم مياه النهرين الملحق بمعاهدة الصداقة وحُسن الجوار الموقعة بين العراق وتركيا ، ثم جرت أولى المفاوضات بين دول الحوض عام 1962 لتقاسم المياه ، حيث رفض الجانب التركي “ولا يزال يرفض” اعتبار نهري دجلة والفرات نهرين دوليين ، وبذلك خالفت تركيا “المادة د” من مبادئ هلسنكي لعام 1966 ، باعتبار الفرات نهرا دوليا ، واعتبرته نهرا عابرا للحدود فقط.
ورغم العديد من المذكرات الموقعة بين العراق وتركيا والتي كان آخرها عام 2017 الذياتفق فيه الطرفان على تفعيل مذكرة التفاهم الموقعة بينهما عام 2014 والتي تضمنت التعاون في إدارة الموارد المائية لنهري دجلة والفرات وتحديد حصة كل دولة ، فإن مشكلة واردات العراق المائية من تركيا ما زالت قائمة