“بدها شدة حيل”
في لقائه الأخير مع وكالة الأنباء الأردنية بمناسبة عيد ميلاده الميمون، أطلق جلالة الملك هذه العبارة التي يستخدمها الأردنيون بلهجتهم العامية، وذلك للدلالة على أن هناك عملا مطلوبا على كافة المستويات للعبور بالدولة الأردنية إلى مئويتها الثانية. وقد حدد سمو الأمير الحسن بن طلال في مقاله “على عتبة المئوية الثانية للدولة” طبيعة هذه الأعمال المطلوب إنجازها، وذلك من خلال تساؤلات ثلاثة تتمثل بماهية الدولة التي نريد للمئوية الثانية، وطبيعة المجتمع الذي نُخطط له في المئوية الجديدة، والمؤسسات التي نُقيمها ونطورها في ظل إطار تشريعات عصرية قابلة للثبات والتجدد.
إن “شدة الحيل” في المئوية الثانية يجب أن تنطلق من قاعدة الاستفادة من التجارب الاجتماعية والسياسية والتشريعية السابقة التي مرت بها الدولة الأردنية في مئويتها الأولى، والتي شهدت على الدوام حالات من الالتفاف الشعبي حول القيادة الهاشمية، وذلك ابتداء من زيارة الشريف الحسين بن علي إلى مدينة القدس في عام 1915 إيذانا ببدء الوصاية الهاشمية على المقدسات في القدس، مرورا بقدوم الأمير عبد الله الأول إلى شرق الأردن في عام 1921. فتأسست الدولة الأردنية وقامت على أساس أن الحاكم يستمد سلطاته من رضى الشعب وقبوله. فانعكس هذا الوضع على طبيعة الدساتير الوطنية التي تعاقبت على الدولة الأردنية منذ استقلالها، كدستور 1946 ودستور 1952، واللذان صدرا بطريقة تعاقدية من خلال إبرام عقد اجتماعي بين الحاكم والشعب.
إن المئوية الثانية يجب أن تكون امتدادا للمنجزات السياسية والدستورية التي شهدتها الحقبة الأولى والاستفادة من تجاربها الإيجابية والبناء عليها. فخلال مئويتها الأولى، تمكنت الدولة الأردنية من أن تكون السباقة في تجربة الحكومات البرلمانية، فتشكلت حكومة سليمان النابلسي في عام 1956 التي ضمت في عضويتها أغلبية من الحزب الوطني الاشتراكي، قبل أن تتراجع الحياة الحزبية إلى درجة ما تزال تلقي بظلالها حتى يومنا الحاضر. فالمحاولات الجادة لإنعاش الواقع الحزبي في الأردن لم تنعكس بعد على تشكيلة السلطتين التشريعية والتنفيذية، ذلك على الرغم من توفر الأسس الدستورية والقانونية لتشكيل الأحزاب السياسية وإمكانية مشاركتها في السلطة وإدارة الشؤون العامة.
إن الطلب الملكي بضرورة تنمية الحياة السياسية بإجراء تعديلات على قانوني الانتخاب والأحزاب السياسية يجب أن ينطلق من قاعدة سلوك شعبية قوامها القناعة الحقيقية بضرورة المشاركة في العمل العام بشكل إيجابي وحيادي، بالإضافة إلى وجود رغبة وطنية صادقة باستحضار الماضي برجاله الأوفياء المخلصين الذين حملوا وزر المسؤولية وتحملوا واجباتهم اتجاه الوطن بكل أمانة وإخلاص. فلا فائدة من نصوص تشريعية جامدة ما لم تلق قبولا شعبيا، فالتطبيق السليم لأي قاعدة قانونية يعتمد بالدرجة الأساسية على واقع المجتمع المحلي وطاقاته البشرية، بالإضافة إلى امكاناته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
ومن المبادئ الأساسية التي يجب أن تحكم عمل المئوية الثانية ضرورة تفعيل قاعدة تلازم السلطة والمسؤولية. فمن يجري اختياره لمنصب قيادي يتولى شؤون البلاد والعباد عليه أن يقدم الصالح العام على مصالحه الشخصية، وأن تكون سياسة الثواب والعقاب هي الأساس في تقييم كل مرحلة. فالمواطنة الحاضنة للتنوع في إطار الهوية الأردنية الجامعة التي يدعهما مبدأ سيادة القانون هي العِماد الأساسي للدولة المدنية التي تقوم على أساس المساواة أمام القانون.
كما أن مصطلح “المسؤول” يجب أن يتسع ليشمل كل من حمل الأمانة في منصب عام، أثناء توليه الوظيفة العامة وبعدها. فالهجوم على الوطن والنيل منه بعد ترك المنصب الحكومي هو طعن في خاصرة قيم القيادة، ويترك تبعات سياسية وشعبية جمة لا يمكن تفاديها.
لذا، يجب على المسؤول أن يبقى مسؤولا عن كلامه وتصرفاته بعد اعتزاله العمل العام، فعليه أن يسعى إلى النقد الموضوعي البناء وإلا كانت العواقب وخيمة. وهذا ما يفسر انعدام الثقة الشعبية في المؤسسات الوطنية الدستورية في يومنا هذا والهجوم غير المسبوق عليها، رغم اعتبارها القاعدة الأساسية التي يقوم عليها نظام الحكم النيابي البرلماني في الأردن.
* أستاذ القانون الدستوري في كلية الحقوق في الجامعة الأردنية