عن عقل الإنسان الذي رحل
اعادني نعي المرحوم بإذن الله عقل بلتاجي يوم الأحد الماضي إلى بواكير الوعي الأولى,حيث انطبعت في الذاكرة صورة الراحل عندما كان قارىء رئيسي لنشرة الأخبار باللغة الإنجليزية في التلفزيون الأردني, يوم كان التلفزيون الأردني شامخاً بشموخ القامات الإعلامية الأردنية التي كانت ترفعه على أكتافها ليطاول عنان السماء مبلغاً رسالة الأردن منافحاً عن مواقفه, يومها كان الإعلام في الأردن دور ورسالة, وإنتماء وولاء, ولم يكن مجرد وظيفة, ولم نكن نعرف الإبتزاز, فقد كان شرف الكلمة ومسؤولية الرسالة يحصنان معظم الإعلاميين الأردنيين.
بعد ذلك عرفت عقل عن قرب في كل المواقع التي شغلها, في الملكية الأردنية أيام أوجها, عندما كانت سفير الأردن الحقيقي, ووجهه المتجول في أجواء العالم ومدنه الكبرى, فلم تكن الملكية يومها مشروعاً تجارياً, تقاس قيمته بأرقام الربح والخسارة, لكنها كانت مؤسسة ذات دور سياسي واجتماعي وإعلامي, يقوم عليها رجال يفهمون ما يريده قائد الوطن من المؤسسة, التي نذروا أنفسهم لنجاحها, وكان عقل في طليعتهم, وربما كان أكثرهم شهرة داخلياً وخارجياً نظرة لحركيته ودنمكيته وقدرته على التواصل الإنساني.
وعرفته وزيراً للسياحة مهموماً بتطويرها والرقي بها, لتكون فعلاً لا قولاً بترول الأردن الذي لا ينضب, وقد جمعتني به حول ملف السياحة عشرات جلسات العمل والعصف الذهني, بعضها في مكتبه وبعضها الاخر في مكتبي, وقد أسس لمن بعده أرضية خصبة من المشاريع، والأهم هو المفاهيم المتطورة للسياحة.
كماعرفته مستشاراً لجلالة الملك,كان له دوراً هاما برسالة عمان ذائعة الصيت, وتعاونت معه وبتكليف مباشر من دولة السيد سمير الرفاعي وكان يومها وزيراً للبلاط الملكي بالإعداد للمؤتمر الإسلامي الدولي, الذي كان بشهادة كل علماء الأمة أعظم وأهم مؤتمر من نوعه, حيث التقى فيه وربما لأول مرة العلماء والمراجع من كل المذاهب الفقهية الإسلامية, ومازال هذا المؤتمر يتمتع بفرادته من حيث الحضور حتى اليوم.
وعرفته أمينا لعمان رافعاً لشعار (أنسنة) المدينة, وقد استضافنا في جماعة عمان لحوارات المستقبل في حوار مطول لترسيخ, هذا المفهوم الذي لم تمكنه الأيام من إنضاجه.
ومثلما عرفت الراحل عقل بلتاجي في مواقعه الرسمية,وهي اكثر مما ذكرت أعلاه , فقد عرفته خارجها ,وأشهد أنه كان مثقفاً واسع الإطلاع,واسع الصدر، وكان مقبلاً على الحياة، فلم أره يوماً الا متفائلا و مبتسماً ولديه جديد, ولم أسمع منه يوماً تذمراً من أحد أو غيبة لأحد, بل كان ساعياً لنشر الوئام بين الناس, وقد كان كما أعلم وكما لمست واصلاً للرحم دافء اللسان, كان كذلك حيثما التقيته في مكتبه أو مكتبي في منزلي و منزله في إسكان الملكية، والذي لم يغادره رغم كل المواقع المتقدمة التي شغلها بعد ذلك،وهذا سلوك يدل اولا على نظافة اليد والزهد، ويدل ثانيا على تعلق عقل بالمكان، ولعل هذا من أسرار حبه لعمان، كما التقيته في منزل صديق عمره ونسيبه المرحوم مروان دودين, كان الله في عون أم صخر بفقدها للشقيق الحنون رحمه الله.