نتائج المعركة الحالية تحدد ملامح المعركة القادمة، والمقاومة الفلسطينية أجادت قيادة المرحلة.
معارك التحرير لابد لها من صولات وجولات حتى تصل للهدف المنشود؛ وفي تاريخ المسلمين يعد صلح الحديبية من أبرز الأمثلة في انتصار إرادة المسلمين بعد الصبر، وفي هذه المرحلة من الطريق إلى تحرير فلسطين فإن المقاومة الفلسطينية المسلحة قد نجحت في تحقيق الأهداف بعد نُصْرَتها للقدس الشريف من اعتداءات الاحتلال على أهالي حي الشيخ جراح في محاولة طردهم من بيوتهم ومن ثم اقتحام جنود الاحتلال للمسجد الأقصى والاعتداء على المصليين.
والنصر الذي حققته المقاومة له تفاصيل عديدة؛ أبرزها تعرية أكذوبة ما يسمى “الجيش الذي لا يقهر”، وبث الرعب في صفوف قطعان المستوطنين في كل أرجاء فلسطين بعد تطوير المقاومة لمنظومة صواريخ حتى أصبحت تصل لمدى 250كم، كما و كلفت الصهاينة خسائر اقتصادية ضخمة.
هذا بالإضافة لأهم المنجزات وهي توحيد الصف الفلسطيني بشكل غير مسبوق حيث حظيت المقاومة بتأييد كامل في الداخل الفلسطيني بالإضافة لمدن الضفة الغربية والقدس الشريف وتطور الدعم الشعبي العربي والعالمي لحقوق الفلسطينيين وكذلك إحياء حقيقة أن المقاومة المسلحة هي التي تفرض الواقع وليس مكاتب المفاوضات المستهلكة تماماً.
على جانب الاحتلال كان المؤتمر الصحفي لنتنياهو ضعيفاً للغاية سواء بالمفاهيم العسكرية حيث قدم معلومات مغلوطة عن تدمير قوة المقاومة وهو ما فندته المقاومة أو فيديوهات المعركة، كذلك بلغة السياسة وتركيزه على دعم المجتمع الدولي وتحديداً دعم الرئيس الأمريكي وهذا يعد سلوك صهيوني تقليدي.
هزيمة الكيان في المعركة أكدها الاحتلال نفسه من خلال حديث رئيس تحرير صحيفة “هآرتس” (Haaretz) الإسرائيلية “ألوف بن” الذي وصف العملية العسكرية بأنها “أفشل وأحمق حرب تشنها إسرائيل قياساً على حرب لبنان الثانية وحروب غزة السابقة” وطالب وقفها بسرعة وهو ما حصل بعد يومين من حديثه!
كعادة الجانب الرسمي الأوروبي والأمريكي ، فقد كانت الأولوية بالنسبة لهم هو القضاء على وجود المقاومة في غزة؛ بل أعطت مواقفهم وتصريحاتهم الدعم الكامل “للكيان الصهيوني” في الدفاع عن نفسه ضد الفلسطينيين.
تلك التصريحات كانت الغطاء الرسمي لرغبة جزء كبير من العالم الغربي في إبادة وجود المقاومة، لكن يبدو أن تقارير أجهزتهم الأمنية عن قوة المقاومة وطبيعة الإنسان الفلسطيني قد جانبها الصواب، فهم يواجهون جيل التحرير؛ الجيل غير المسبوق.
في نفس السياق تراوح الموقف الرسمي العربي ما بين تغييب الأحداث بالكامل عن وسائل الإعلام والتركيز على المسلسلات والبرامج الترفيهية، وما بين التنديد والشجب عند البعض الأخر، ومن ثم تدريجياً دخول بعض الدول في جهود دبلوماسية لوقف الأزمة أبرزها الأردن ومصر وقطر.
في هذا الصدد وجب عدم إغفال الحركة المكوكية للدبلوماسية الأردنية منذ بداية المواجهات حيث الوصاية الهاشمية على المقدسات الإسلامية في القدس، وكذلك الموقف الوطني للبرلمان الأردني والموقف الأقوى بالقرار السياسي الأمني الأردني بالسماح للمواطنين بالتعبير اليومي عن دعم فلسطين بل والسماح للشباب بالوصول للحد الفاصل مع فلسطين، وهو ما فعله أيضا الشباب اللبناني على الجبهة اللبنانية.
على جانب السلطة الفلسطينية التي كانت تستطيع تسجيل موقف سياسي يحسب لها برفض استقبال وزير الخارجية الألماني بعد تصريحاته الداعمة للكيان المحتل في مطار بن غوريون ولكن من أجل البقاء في دائرة الضوء، أضاعت السلطة تسجيل هذا الموقف السياسي.
بالمجمل كان الموقف الرسمي العربي أقل بكثير من مستوى الحدث حيث الاعتداء على الأقصى والمصليين وقتل المدنيين العزل في غزة.
كانت وسائل الإعلام البديلة هي المؤثر الرئيسي في تطور الدعم العالمي غير المسبوق لحقوق الفلسطينيين؛ وتحديداً السوشيال ميديا وما تفرع منها من منصات، بعد عقود من سيطرة اللوبي الصهيوني على أبرز عواصم العالم؛ مثل لندن وباريس وواشنطن دون وجود أي داعم لفلسطين وحقوق شعبها، تغيرت العديد من المواقف خصوصاً الشعبية من تأييد الاحتلال بشكل مطلق إلى تأييد الحقوق الفلسطيني وخرجت من قلب تلك العواصم مظاهرات ضخمة داعمة لحقوق الفلسطينيين.
ويعد هذا بحد ذاته جزء مؤثر من المقاومة وينبغي البناء عليه وتعزيزه وهذا ما يقوم به فعلاً شباب وشابات فلسطين وغيرها من البلدان العربية حيث استطاعوا توصيل رسالتهم للعديد من الشخصيات العامة المؤثرة عالميا، وسنحتاج استمرار هذا الاتجاه في الأيام القادمة لأنها أحد الأدوات المعززة لشرعية مقاومة الاحتلال.
المعركة ستتجدد لا محالة طالما أن الاحتلال موجود والدلائل كثيرة؛ فلم تكد تمضي ساعات على وقف إطلاق النار حتى عقدت المقاومة مؤتمراً صحفيا بطابع عسكري وسط حضور شعبي ومسلح، تحدث الناطق باسم فصائل المقاومة الفلسطينية بوضوح؛ الدفاع في المرحلة القادمة سيكون إذا تم الاعتداء على الفلسطينيين ليس في غزة فقط؛ بل في كل فلسطين حتى الداخل، وأعلن فشل جيش الاحتلال في تدمير قدرات المقاومة، وقد كانت المعنويات مرتفعة جداً في الحديث.
الدلائل السياسية لانتصار المقاومة؛ بدأت تظهر من خلال تصريحات العالم الغربي عن ضرورة إجراء اتصالات مع “حماس” حتى لو من خلال وسطاء، وهو فخ لا يمكن أن تنزلق له المقاومة التي أدركت أن لغة السلاح هي ما يجعل الغرب يغير مواقفه.
قد يكون أسوء ما في المرحلة القادمة هو عدم تقبل البعض من “أولي القربى” بفكرة انتصار المقاومة الفلسطينية وقد يتم العمل على التضييق عليها مجدداً، وتمتلك المقاومة الخبرات الكافية لتجنب هذه الفتنه ولكن لابد من الحذر.
من مظاهر المرحلة الحالية التي ستحدد مسارات المرحلة المقبلة هي الشجاعة والجرأة العالية لهذا الجيل؛ سواءً للمقاومة العسكرية أو للمقاومة المدنية من النشطاء الفلسطينيين والعرب وأحرار العالم، ولذلك فإن من مصلحة الجميع دعم وتمكين المقاومة الفلسطينية لأنها أثبتت أحقيتها بقيادة المرحلة.