محمد نفاع القصصي البارع
بقلم: شاكر فريد حسن
برحيل محمد نفاع تفقد حياتنا الثقافية والأدبية والسياسية الفلسطينية، علمًا بارزًا ولامعًا من أعلام النضال والفكر والإبداع الوطني الملتزم.
فمحمد نفاع شخصية وطنية وقامة أدبية سامقة ومثقف بامتياز، وهو من الرعيل الأول للكتاب السرديين في هذه الديار، ومن أبرز كتاب القصة القصيرة في المشهد الأدبي والثقافي الفلسطيني، وواضع أسس المدرسة التراثية في أدبنا الفلسطيني الحديث، من خلال طابع متميز ونكهة خاصة في الكتابة القصصية.
انخرط محمد نفاع منذ شبابه المبكر في النضال مع أبناء شعبه، رافضًا الخدمة العسكرية القسرية المفروضة على الطائفة المعروفية، وقد بدأ خطواته الأولى عضوًا في الشبيبة الشيوعية، ومن ثم في صفوف الحزب الشيوعي، الذي أمضى فيه حياته حتى آخر نبض ورمق، واشغل أمينه العام، وكان بمثابة بوصلته السياسية.
واتصف محمد نفاع بحسه الإنساني، وبصلابة المواقف الجذرية المبدئية، وبالرؤية بعيدة المدى، لكل ما يحيط بنا من أحداث ومتغيرات، وكان ذا بوصلة وطنية صادقة قائمة على أسس الفلسفة الماركسية اللينينية، وعلم الجمال الماركسي.
ويعد نفاع كاتبًا أيديولوجيًا يساري النزعة، امتاز بالتصوير الواقعي، والتأليف السردي، جامعًا بين العامية المحكية والفصحى، وتوظيف الأمثال الشعبية والألفاظ المحلية والسخرية، وكتب قصصه بروح وضمير الجماعة.
كتب محمد نفاع القصة، والقصة القصيرة، والرواية، والمقالة السياسية، ونشر كتاباته في أدبيات الحزب الشيوعي “الجديد، الغد، والاتحاد”، وترك لنا إرثًا أدبيًا جميلًا، ومن أعماله المطبوعة: “العودة إلى الأرض، الأصيلة، ودية، ريح الشمال، كوشان، الذئاب، مرج الغزلان، وادي اليمام، التفاحة النهرية، خفافيش على اللون الأبيض، أنفاس الجليل، وغبار الثلج”.
تحمل قصص محمد نفاع ابعادًا إنسانية ووطنية وطبقية واضحة، ينحاز من خلالها إلى جانب الناس البسطاء والعمال والكادحين والمسحوقين والمستضعفين، وكأنه ” أبو ذر الغفاري”. وفي قصصه يتناول الكثير من الموضوعات المرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالأرض، لدرجة عشقه الصوفي للأرض وترابها، ونجده يصف البيئة الشعبية والقرية العربية، مصورًا كرسام تشكيلي ماهر حياة الفلاحين والناس في القرية، ويبرع في وصف قريته “بيت جن” المتربعة كالعروس على جبل “الجرمق”، وتجسيد عادات أهلها وتقاليدهم المتوارثة والسائدة، ووصف كل ذرة تراب لدرجة يمكننا أنه ترابي، وقصصه تنتمي للأدب الريفي ( الايديليا).
وما يسم لغة نفاع في قصصه أنها لغة شعبية قروية وفلاحية بسيطة، وفي كثير من الأحيان محلية بفطرتها وانسيابها وعفويتها، فهي لغة الناس اليومية القريبة إلى الذوق العام.
وتعتبر مجموعته القصصية “التفاحة النهرية” بمثابة وثيقة ثقافية وتاريخية وتسجيلية للقرية والريف، وتتصف قصصها بالواقعية، فضلًا عن المزج بين الواقعين الاجتماعي والسياسي، وتتمحور حول عدة قضايا ومسائل أبرزها الدفاع عن الأرض والانتماء إليها، ودورها في تغيير المفاهيم والقيم الاجتماعية والحياتية.
وفي مجمل قصصه يركز نفاع على حضور صورة المكان الفلسطيني، حيث يذكر أسماء القرى الفلسطينية، وبالذات المهجرة منها، وأكثر الأماكن استخدامًا وتوظيفًا في أعماله القصصية بلده “بيت جن” و”الجرمق” و”الكرمل” وغير ذلك، ويركز على أماكن تمت مصادرة أراضيها، أو تغيرت أسماؤها بعد النكبة. ويكثر من الاطناب في السرد من خلال تقنيات عديدة كالتداعيات والاستطرادات والوصف التصويري المفصّل، ناهيك عن الاكثار من الشعارات على لسان شخصياته، وهي شعارات نابعة من صميم قناعاته ومعتقداته الفكرية وآرائه السياسية.
ومن خلال أعماله نلحظ التزامه بالموقف اليساري التقدمي، وبالرسالة الإنسانية الاجتماعية والأيديولوجية التي يريد ايصالها إلى شرائح مجتمعية واسعة، بالإضافة إلى هيمنة المكان كعنصر أساسي، وإعطائه لونًا جميلًا خاصًا يجذب القارئ ويعطيه فكرة ومغزى واضحًا، ينصب في التمسك والانزراع في الأرض والجذور، بكل ما تمثله الأرض من صمود وبقاء ووجود وهوية وانتماء وحياة.
كتب الأديب الفلسطيني الراحل نواف عبد حسن، غداة صدور مجموعته القصصية “ودية”، قائلًا: “الحقيقة، فإنه فيما عدا قصص أحمد حسين ومحمد نفاع، فإنه من الصعب وبكل الموضوعية القول بأن هناك قصة محلية ناجحة، ومع أن البعض قد كتب بعض القصص التي تثير الانتباه، إلا أن في هذه القصص شيء مفقود يحرمها تلك العذوبة والطلاوة التي تشد القارئ إلى قصص كقصص محمد نفاع، وإذا كان لنا بعض المآخذ فهي هذا التفاوت بين الشكل والمضمون، والذي ينبغي لهما التساوق والتلاحم وبنفس المدى من الرصانة، وافتقاد الذروة أو العقدة في كثير من القصص، وبعض الفقرات المباشرة. والحقيقة أن قلائد مثل “جاء وقت الغوا” و”كيف أهدى” و”أنفاس الجليل” ستظل سلالًا على صدر التاريخ الفني للقصة المحلية”.
محمد نفاع السياسي والأديب والقصصي المتفرد، والفلاح الأصيل الذي أحب الأرض حتى درجة العشق، فأحبته سهولها وغاباتها وأشجارها وزهورها، كتب حكايته وترجل عن صهوة الأدب ورحل رحيله الأبدي معانقًا أرض الزابود وثرى الجرمق.