أنقذوا التعليم المهني والتقني..!
د. مفضي المومني.
التعليم المهني والتعليم التقني هما حاجتنا الأساسية للنهوض بالإقتصاد والحد من مشكلة البطالة التي وصلت مستويات قياسية أكبر بكثير من الرقم الرسمي بحدود 23%، ويتسابق المسؤولون عن التعليم في بلدنا أمام الكامرات وللإستهلاك الإعلامي، لحث الطلبة للإلتحاق بالتعليم المهني والتقني والتغني فيه وبنجاحاته، وفي واقع الحال كل السياسات محبطة ومثبطة للتعليم المهني والتقني، وواقع الحال يشير إلى أننا لم نحقق شيء من الهدف الذي وضع في الإستراتيجية الوطنية لتنمية الموارد البشرية، لزيادة أعداد الملتحقين في التعليم المهني والتقني والذي يصل إلى 25% وعالميا تتجاوز النسبة 45% وتصل في بعض الدول اكثر من ذلك، وفي وضعنا الحالي لا تتجاوز النسبة بأحسن الأحوال 4% إذا عرفنا أن الملتحقين بالتخصصات التقنية البحتة لا يشكل 5% من الملتحقين في الدبلوم الجامعي المتوسط، لأن غالبية التخصصات والملتحقين فيها تخصصات غير تقنية..!وفي التعليم المهني النسبة متدنية جداً.
أفرزت سياسة وزارة التربية والتعليم في آلية ضبطها لامتحان الثانوية العامة التوجيهي منذ سنوات قليلة العديد من النتائج، كان أهمها أن هنالك 240 ألف طالب راسب غير ناجح في التوجيهي على مدار السنوات الأخيرة أو أكثر، وفي هذه السنة وحدها تجاوز الرقم المئة الف، وهذه أرقام مخيفة بكل معنى الكلمة، لان هؤلاء الشباب اليافعين بكل بساطة يعيشون في فراغ، ودون عمل، وكل يوم يتم إغلاق فرص النجاح في طريقهم بدل فتحها، وهم قنبلة اجتماعية تعيش بيننا معرضة لزرع فتيل التطرف أو الانحراف بينهم، طبعا لا اعتقد أن وزارة التربية نجحت لأن النجاح يكون بزيادة أعداد الناجحين لا الراسبين، ولا اعتقد أن النظام التعليمي الذي تكون نسب النجاح لمخرجاته لا تتجاوز 30% إلى 50%ناجحا، وما اعلمه أن نسب النجاح كانت دائما متقاربة على مدى السنين الماضية، واعلم أن الامتحانات العامة لها معالجات إحصائية يجب أن تتم وكانت تتم في الماضي، لأسباب ومعطيات كثيرة ، فمثلا لا يعقل أن تكون نتيجة طالب حصل على معدل مرتفع 87 مثلا وراسب لأنه ينقصه علامة أو علامتين في مادة ما، وكذلك النسب يجب أن تكون مقبولة سيما وان العملية التعليمية بعناصرها ليست بأفضل حالاتها وخاصة جيل توجيهي الكورونا والتعليم في البيوت..!، ولا اطلب هنا تنجيح لكل من هب ودب، ولكن يجب أن تكون نسب النجاح معقولة من خلال معالجة النتائج وكذلك والاهم التركيز على تحسين التعليم وبيئته في مدارسنا.
هذا الوضع غير المخطط له، وعمل وزارة التربية بشكل منفصل لا يأخذ حلقات التعليم الأخرى بعين الاعتبار، والتركيز على إعادة هيبة التوجيهي وكبح جماح المعدلات المرتفعة والذي انفلت في السنة الماصية وأعيد كبحه هذه السنة..!، لينتج أعداد اكبر من الراسبين لنثبت نجاحنا الوهمي دون أن نطرح البديل للراسبين..!، ولا اقلل من جهود الوزارة وطاقمها لكن الخطأ إعطاء التوجيهي كل التركيز دون العملية التعليمية بمجملها، كل ما سبق أدى إلى هبوط حاد في أعداد الناجحين وزيادة تراكمية للراسبين، بحيث ستأخذ الجامعات الحكومية حصة الأسد من خلال القبول الموحد، ويذهب من يرغب ويقدر ممن لم يقبلوا على الموحد للجامعات الخاصة، أوالتعليم الجامعي المتوسط بتخصصاته المختلفة ومنها التقني في القطاعين العام والخاص، وطبعا الأولوية للجامعات دون الكليات لمن يسعفه المعدل والقدرة المادية، كليات المجتمع التقنية تعمل بالحد الأدنى بسبب تدني أعداد المقبولين وضعف الإقبال وسياسات القبول، ونعرف أنه تم طرح الدبلوم الفني قبل سنوات لحل مشكلة الراسبين ولكنه فشل أو أفشل عمدا لصالح الكليات الخاصة، حينما وضعت إحدى الجامعات الحكومية 50 دينار سعر الساعة وهو أعلى من أسعار ساعات الكثير من تخصصات البكالوريوس! طبعا اعرف أن اقتراح تدريب طلبة التوجيهي الراسبين أتى من الكليات الخاصة ليس لغيرتهم على التعليم المهني أو التقني ولكن لجلب زبائن بأي ثمن في حينه، المهم بالأمر تم تبني ذلك وتم اتخاذ القرار والسير به لاستيعاب الطلبة الراسبين في كليات المجتمع ولم ينجح الدبلوم الفني واختفى في الجامعة الحكومية وصمتت الأصوات الداعمة له في البداية.
الموضوع الأهم في هذا المقال ما يتم طرحه وترويجه بربط التعليم المهني بالفشل والرسوب أو متدنيي المعدلات، بداية الأدب التربوي وعلم القياس والتقويم يبتعد عن الكلمات القاسية مثل الرسوب والفشل، ويعبر بدلا عنها، بان الطالب لم تتحقق أهداف التعلم لديه، وبنسب مختلفة إلى أن تصل حد معين اعتدنا على تسميته الرسوب، حيث يحتاج المتعلم عنده لإعادة دراسة المقررات أو البرنامج مرة أخرى لتحقيق الأهداف المنشودة، والتعليم والعمل المهني عانى عبر العصور من النظرة الدونية له والسبب ارتباطه بالطبقة الفقيرة في المجتمعات الإقطاعية قديما، وتخلصت غالبية الدول في زمن التقدم التكنولوجي من هذه النظرة، لان التعليم المهني والتقني من أنواع التعليم الراقية والتي تحتاج للمعارف والعقول إضافة للمهارات في عصر التقدم التكنولوجي المتسارع، وهذا ما يميزها عن العلوم النظرية، ولا يخفى ما يؤمنه خريجو التعليم المهني والتقني من مهنيين وتقنيين للمجتمعات من الخدمات والمنتجات، وامتعض هذه الأيام كلما سمعت المسؤولين في بلدي يروجون من غير قصد لفكرة التعليم المهني للراسبين التعليم الفني للراسبين، وكأننا نريد ترسيخ فكرة أن الفاشلين والراسبين في نظامنا التعليمي مصيرهم التعليم المهني..!، وأتذكر انه في منتصف السبعينيات كان آباؤنا يدفعون بأبنائهم المتفوقين إلى التعليم المهني، واذكر انه في سنة 1976 ذهب الاربعة الاوائل في الصف الثالث الإعدادي من مدرسة صخرة الثانوية إلى مدرسة اربد الصناعية راغبين وبمباركة الأهل، وبعد أكثر من أربعين عاما ومع كل التقدم التكنولوجي تراجع تفكيرنا وأصبح التعليم المهني لمتدني التحصيل والراسبين والفاشلين، هذا ما لا نريده في ظل إتفاقنا جميعا على تعزيز التوجه نحو التعليم المهني والتقني، لأننا جميعا نعلم أن سياساتنا التعليمية أوصلتنا حد الهاوية بإغراق السوق بحملة الشهادات الجامعية، والتوسع في التعليم الجامعي حيث يقترب عدد المتقدمين لديوان الخدمة المدنية من حملة البكالوريوس، من نصف مليون، وأغفلنا التركيز على قطاع التعليم المهني والتقني من خلال قصور السياسات والتمويل.
التعليم المهني يجب أن يكون في مكانه الطبيعي للناجحين والمتميزين وليس لحل مشكلة الراسبين..!، وكان أحرى بوزارة التربية توجيه الطلبة نحو التعليم المهني التطبيقي وزيادة أعداد المقبولين فيه من الأصل، من خلال السياسات والتوجيه والإرشاد المهني، وتنشيط الإستثمارات لتستوعب أعداد أكبر من المعطلين عن العمل، وكذلك زيادة أعداد المدارس المهنية ودعمها مالياً وغير ذلك، كذلك يجب العمل على زيادة نسب الناجحين في التوجيهي كما أسلفت، لنضمن إلتحاق أكبر عدد من الطلبة وحثهم وتوجيههم للإنخراط في التعليم المهني والتقني
ولن يتأتى ذلك بالفزعة، فما زال التعليم المهني والتقني دون جسم وطني واحد يخطط له ويضع أستراتيجياته مثل مجلس التعليم العالي، ما زلنا نتخبط ونعيش العشوائية في التوسع بالتعليم الجامعي رغم جيش العاطلين علي العمل، لا بد من وضع النقاط على الحروف، التعليم المهني والتقني يفتقد للحاكمية والتشريعات والتخطيط وتعدد الجهات المزودة له وعدم وجود مجلس وطني يخطط للقوى البشرية كما ونوعا، ولا ننسى التمويل أساس هذا النوع من التعليم، وغير ذلك فنحن نرحل الفشل من وزارة لوزارة ومن جيل لجيل… حمى الله الأردن.