مهنة الصيد في غزة : صيادين على حافة الموت
نشوة زايد – غزة
معاناة الصيادين الغزيين تروى كل يوم على وسائل الإعلام المحلية والعربية وربما العالمية، المشاهد صعبة جداً عندما يتحدث بها الصياد بأسلوب تكاد أن تقول “طفل صغير سلبت لعبته منه”، لكن هنا سلب الصياد حقه المشرع في الاتفاقيات المبرمة ، فإنه يحق لصيادي الأسماك في قطاع غزة، بالإبحار لمسافة 20 ميلاً، بهدف صيد الأسماك، إلا أن ذلك لم ينفذ منذ 15 عاماً، حين يكادون الوصول لمسافة 6 ميل وتصل أحياناً أن تجبرهم قوات الاحتلال على أن يصطادوا على مسافة ثلاثة أميال بحرية، ويجدر بالذكر أن يصل إجرام الاحتلال إلى إغلاق البحر بوجه الصيادين، وهذا ما يحدث في معظم الأوقات .
إن قوات الاحتلال تشرع بتلك الأعمال العدوانية من غير أي إشعار أو تنبيه مسبق للصيادين لكي يهربوا من جرف عدوانها، وهو ما يتسبب في إثارة الخوف لدى الصياد الغزيّ، ويمنعهم من مزاولة أعمالهم بحرية وأمان، ويحيلهم إلى صفوف العاطلين عن العمل، وهو ما يتنافى مع حقهم في العمل، والحياة، والأمن والسلامة.
لقد أصبح الصيد المهنة الأخطر على وجه مدينة غزة التي يهان بها العامل من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي الذي لا يكترث للصياد الذي ترك عائلته وكأنه اللقاء الأخير معهم، ذاهب للبحر وهو متقين أنه ربما يأتي عليه الدور في الاعتقال أو الموت في ليلة سوداء لا يرحم بها الجندي الإسرائيلي ذاك الصياد الذي أكبر أمنيه له أن يخرج بكمية أسماك تعيد الحياة لبيته الذي يتمنى أن يدخل له الأشياء الضرورية.
ولا تزال إسرائيل مستمرة بسياسة احتجاز القوارب التي يتم مصادراتها بعد استيلاء القوات البحرية عليها و احتجازها إلى ما يقارب من ثلاث سنوات أو أقل إلى أن تعيدها إلى أصاحبها، فعندما تعود هذه القوارب المهترئة يصاب الصيادين بألم شديد نظراً للمشاكل التي خلفتها قوات الاحتلال بالمركب.
وأفادت إحدى زوجات الصيادين نورا نعمان (22 عاماً) من مخيّم الشاطئ للّاجئين في مدينة غزّة، وهي أمّ لطفلين أدلت بها محدّثة عن خوفها على زوجها الصيّاد مؤمن (31 عاماً) وعن المصاعب الاقتصاديّة
تقول : “عندما يتوجّه مؤمن إلى عمله ينتابني الخوف ألّا يعود فلا أهدأ إلّا حين أراه عائداً إلى المنزل”.
تضيف مستذكره : في بداية العام 2018 خرج مؤمن للصيد, مرّت ساعات طويلة ولم يعد, خشيت على سلامته عندما سمعنا من صيّادين أقارب لنا أنّ الجيش اعتقله, بكيت وخفت كثيراً, حينذاك كان شقيقه معتقلاً لدى الجيش الإسرائيليّ أيضاً, خفت ألّا يعود مؤمن إلينا, كان ابني محمّد في ذلك الوقت رضيعاً ابن 7 أشهر فقط.
ثلاثة أسابيع مرّت ولم نعرف إلى أين أخذوا مؤمن, طوال تلك الفترة كنت بالكاد أتناول الطعام أو أنام, في النهاية أخلي سبيل مؤمن, عندما رأيته داخلاً إلى المنزل لم أصدّق عينيّ وأجهشت بالبكاء,احتضنته والسّعادة تغمرني.
وحتى اليوم عندما أسمع عن إطلاق نار على الصّيادين أتّصل فوراً بإخوة زوجي لكي أطمئنّ على مؤمن ولكنّني لا أطمئنّ إلّا حين يعود إلى المنزل, قبل خروجه إلى البحر يوصيني مؤمن بنفسي وبأولادنا الصّغار لأنّه مثلي يخشى أن يقتلوه أو يعتقلوه وهذا يوتّرني أكثر فأكثر فأقول له لا تتحدّث هكذا، ستعود بالسّلامة بإذن الله.
وفي إفادة اخرى : عُلا الصّعيدي (36 عاماً) من مخيّم الشاطئ في مدينة غزّة، وهي أمّ لثلاثة أولاد محدّثة عن زوجها الصيّاد
زوجي أحمد في الـ42 من عمره ويعمل صيّاداً منذ زواجنا قبل 18 عاماً إنّها مهنة شاقّة ورغم أنّ عائلتي هي عائلة صيادين إلا أنّني لا أحبّ هذه المهنة لأنّها خطيرة جدّاً ولكن بما أنّها مصدر رزقنا الوحيد فنحن مضطرون إلى تقبّلها على مخاطرها.
نحن نمرّ الآن بأزمة ماليّة عندما بدأ الحصار انخفض مدخول زوجي إلى 700 شكيل شهريّاً واليوم لا يتجاوز مدخوله الـ500 شيكل شهريّاً, رغم أنّه يشقى في عمله هذا مبلغ ضئيل جدّاً ولا يكفي لمعيشتنا, في الماضي كنت أتلقّى كلّ ثلاثة أو أربعة أشهر مخصّصات من وزارة الرّفاه بقيمة 1,800 شيكل لكنّهم خفضوا المبلغ بعد أربع سنوات إلى 700 شيكل هذه المبالغ لا تكفي لمعيشتنا ولا حتى لاحتياجاتنا الأساسيّة اليوميّة.
منذ تفشى وباء الكورونا ازداد الوضع سوءاً لأنّ الأزمة الاقتصاديّة في قطاع غزّة تفاقمت والناس يشترون الأسماك بكميّات أقلّ من ذي قبل كذلك انخفض عدد القادمين إلى القطاع.
لقد سبق أن اعتقل الجيش زوجي عدّة مرّات وكانت الأخيرة في العام 2018 في العام 2007 ظلّ رهن الاعتقال نصف سنة, كما صادر الجيش لنا مركبين وأربعة محرّكات ولا تزال محتجزة في ميناء أسدود.
بالإضافة إلى ذلك، تنكّل قوّات سلاح البحريّة الإسرائيلي بالصيّادين بشكل روتينيّ بدعوى أنهم تجاوزوا المساحة المسموحة للصّيد – رغم أنّ الصيّادين مجهّزين بأجهزة ملاحة عبر الأقمار ويحرصون على عدم تجاوز المدى المُتاح.
في العامين الماضيين قتلت قوّات سلاح البحريّة الإسرائيليّ اثنين من الصيّادين وجرحت عشرات الصيّادين الآخرين بإطلاق الرّصاص المعدنيّ المغلّف بالمطّاط.
في بعض الحالات يقوم الجنود حتى باعتقال الصيّادين ومصادرة قواربهم (الحسكات). كما وتقيّد إسرائيل تصدير الأسماك وتسويقها وتحظر دخول الموادّ والمعدّات الضروريّة للعمل في الصّيد البحريّ بما في ذلك تلك اللّازمة لإصلاح القوارب والمحرّكات.
إنّ سياسة دولة إسرائيل فيما يتعلق بقطاع الصّيد البحريّ في قطاع غزة تُظهر بوضوح أنّه لا صحّة لادّعائها بأنها لم تعد مسؤولة عن مصير سكّان قطاع غزة وما يحدث في نطاقه, حتى اليوم لا تزال دولة إسرائيل تسيطر على العديد من جوانب حياة سكّان القطاع – احيانًا عن بُعد وأحيانًا أخرى في داخل القطاع – وقد أدّت ممارساتها في القطاع إلى انهيار قطاع الصّيد البحريّ وحال الصيّادين الصعب.
مطاردة واعتقال وإطلاق نار
يقول مسؤول لجان الصيادين باتحاد لجان العمل الزراعي زكريا بكر
“إن مهنة الصيد تعتبر من المهن القديمة التي كانت تشكل مصدر رزق أساسي لأي إنسان، ففي قطاع غزة يعمل بها كثير من المواطنين، فمنهم من ورثوها عن آبائهم وأجدادهم وآخرون لجأوا إليها لعدم توفر فرص عمل بالصناعة التي كان يعمل بها وتوقفت بفعل الحصار الإسرائيلي على غزة منذ سنوات”.
ويضيف بكر: “يعتبر الصيد مهنة شاقة لأنه يحتاج إلى قوة بدنية عالية، هذا فضلاً عن المخاطر التي يواجهها الصياد بسبب قوات الاحتلال الإسرائيلي.
فخلال السنوات القليلة الماضية صادر الاحتلال 350 قارباً، وأعادها من دون محركاتها ومعدات الصيد التي كانت على متنها.
ويتابع بكر: “الاحتلال يسعى دائماً للتضيق على عمل الصياد الفلسطيني بممارسة عدد من الانتهاكات، منها إطلاق النار على الصيادين مباشرة من قبل الزوارق الحربية تجاه المراكب، ورشِّها بالمياه العادمة، فالصياد أصبح حقل تجارب للأسلحة الإسرائيلية.
ويضيف: “قبل 2006 كان الصياد يصل إلى 20 ميلاً في البحر، أما المساحة المحددة حالياً فهي بين 6 و9 أميال ببعض المناطق، ومن يتعدى تلك المساحة من الصيادين يُعتقل ويصادَر مركبه، فالفلسطيني يعيش أكبر فترة حصار بحري عرفه التاريخ، فمنذ أكثر من 15 عاماً يمنع دخول أي قطع غيار خاصة بقطاع الصيد، الأمر الذي أصبح يهدد بتوقف تلك المهنة إذا استمر الوضع علي ما هو عليه.
بعضهم قُتل وآخرون فقدوا البصر
ويوضح بكر أن قوات الاحتلال اتجهت في السنوات الثلاث الماضية إلى أسلوب جديد هو إطلاق النار على أعين الصيادين لتعجيزهم عن ممارسة الصيد إلى الأبد, حتى إن ثلاثة صيادين فقدوا البصر نتيجة إطلاق الرصاص المطاطي عليهم، أما عدد الشهداء من الصيادين فبلغ 10 والمصابين أكثر من 320
ويبين بكر أن عدد الصيادين المسجلين بشكل رسمي بلغ 4 آلاف صياد، فيما بلغ عدد مراكب الصيد 1050 مركباً مختلفة الأحجام.
وفي نهاية حديثه، يؤكد بكر أن البحر بالنسبة إلى الفلسطينيين ليس مزاراً استجمامياً ومهنة فحسب، بل موروث حضاري وإنساني لا يمكن التخلي عنه، لهذا السبب يسعى الاحتلال الإسرائيلي إلى طمسه.