م.علي أبو صعيليك يكتب : الانقلابات على أنظمة الحكم تعمق الانقسام المجتمعي وتغلق طرق التطور
في القرن الماضي وتحديداً منذ مرحلة ما بعد الاستقلال عن الاستعمار الغربي الذي جاء على أنقاض أخر دول الخلافة الإسلامية، شهدت العديد من الدول العربية سلسلة من الانقلابات على أنظمة الحكم وكانت في معظمها انقلابات عسكرية، وحتى يومنا هذا لم تتوقف هذه الطريقة للوصول إلى كرسي الحكم وأخر تلك الانقلابات ما حصل في السودان مؤخراً.
تعتبر الجمهورية العراقية رائدة في الدول العربية في فلسفة الانقلابات التي بدأت بعد استقلال العراق عام 1932 حيث حدث أول انقلاب عام 1936 بقيادة الفريق بكر صدقي والذي فرض على الملك في حينها تشكيل حكومة برئاسة حكمت سليمان ثم توالت الانقلابات حتى أطاحت بالنظام الملكي عام 1958 ومن ثم انقلب الانقلابيون على أنفسهم حتى يومنا هذا، وهذا ما يؤكد على ما قاله الرئيس الروسي السابق بوريس يلتسين ” بالسلاح يمكنك الجلوس على كرسي الحكم ، لكن لا يمكنك البقاء طويلا”
ولا يختلف الحال كثيراً في ليبيا ومصر والسودان وسوريا واليمن ولبنان وحتى فلسطين المحتلة لم تسلم من هذه الفلسفة، فقد تم الانقلاب على حركة حماس التي فازت بإحدى أكثر الانتخابات العربية دقة ومصداقية حيث جرت تحت رقابة مندوبين من الاتحاد الأوروبي عام 2006 ولم تصمد تلك التجربة كثيراً فقد تم الانقلاب عليها بعد عام واحد!
جرت العادة أن يعلن قادة أي انقلاب بعد أن يُنَصِّبوا أنفسهم على المجتمع بأنهم قد قاموا بالانقلاب من أجل مصلحة الشعب ولتصحيح المسار الذي انحرف عنه نظام الحكم المنقلب عليه، ويتم رفع العديد من الشعارات الرنانة التي تثبت الأيام أنها لا تسمن ولا تغني من جوع وليست أكثر من مجرد إبر تخدير لا تلبث أن يزول مفعولها.
وبمرور الوقت يتضح أن الحاكم الجديد لا يختلف جوهرياً عن القديم من حيث الأهداف بل غالباً ما يكون الجديد أشد قوة في تمكين حكمه، وتكون هنالك فاتورة باهظة الثمن ليتمكن من ترسيخ أعمدة حكمه وسلطته خوفاً من انقلاب جديد يطيح بهِ كما أطاح هو بمن سبقه!
وتمكين نظام الحكم في مرحلة الانقلاب ليس فقط ما يؤثر على نمو الدول واستنزاف مواردها، فهنالك عواقب وخيمة اقتصادياً وأمنياً واجتماعياً، والاستثمار والسياحة هي القطاعات المتأثرة بشكل مباشرة، ولا يمكن وضع خطط عمل وتطوير طويلة الأمد.
لابد من الإشارة إلى ما قاله أحد أبرز الضباط الأحرار ممن قاموا بالانقلاب على النظام الملكي في مصر اللواء محمد نجيب وهو أول حاكم لمصر بعد الانقلاب على الملك حيث قال في كتابة (كنت رئيساً لمصر): “ﻛﺎن ﻛﻞ ﺿﺎﺑﻂ ﻣﻦ ﺿﺒﺎط القيادة ﯾﺮﯾﺪ أن ﯾﻜﻮن ﻗﻮﯾﺎ، ﻓﺄﺻﺒﺢ ﻟﻜﻞ ﻣﻨﻬﻢ “ﺷﻠﺔ” وﻛﺎﻧﺖ ﻫﺬﻩ اﻟﺸﻠﺔ ﻏﺎﻟﺒﺎ ﻣﻦ اﻟﻤﻨﺎﻓﻘﯿﻦ الذين ﻟﻢ ﯾﻠﻌﺒﻮا دورا ﻻ ﻓﻲ التحضير ﻟﻠﺜﻮرة وﻻ ﻓﻲ القيام بها، والمنافق دائما مثل العسل على قلب صاحب النفوذ لذلك فهو يحبه ويقربه ويتخلص بسببه من المخلصين الحقيقيين الذين راحوا وراء الشمس، لأن إخلاصهم كان هما و حجرا ثقيلا على قلوب الضباط من أصحاب الجلالة”
السلطة بحد ذاتها “كرسي الحكم” وميزاتها هي الهدف العميق من الانقلابات، وهذا ما قد أثبتته أغلب التجارب السابقة، والشاهد هنا استمرار أغلب من قام بالانقلاب في الحكم بعد أن عاش في ميزاته، إلى أن استطاعت فئة أخرى انتزاع الحكم منه، والحقيقة الثابتة هنا عن مدى استمرار الانقلاب قبل تسليط انقلابي أخر عليه هي مدى رضا القوى العالمية الكبرى، والعمق في مسألة الرضا يكون وفقاً لتحقيق مصالح تلك القوى الكبرى بدرجة رئيسية.
مما لا شك فيه أن مصالح القوى العالمية الكبرى في المنطقة تلعب دوراً أساسياً في حدوث تلك الانقلابات، وهي مسؤولة بشكل مباشر وغير مباشر عن آلاف الأرواح التي أزهقت من أجل وصول مجموعة تخدم مصالحها إلى السلطة.
وبالعودة إلى التاريخ القريب، فقد شهدت الولايات المتحدة الأمريكية في القرنين السابع والثامن عشر سلسلة انقلابات وحروب، وفي إحداها قامت القوات البريطانية بحرق العديد من المباني الكبرى المهمة في العاصمة واشنطن فيما يعرف ب”حريق واشنطن” وكان الهجوم البريطاني رداً على ما ارتكبته القوات الأمريكية من هجوم على المستعمرات البريطانية في كندا “تورونتو وأونتاريو” وما رافق الهجوم الأمريكي من نهب وحرق وخراب.
تلك القوى الكبرى التي خاضت تلك الحروب فيما بينها من أجل أهدافها الاستعمارية التوسعية، عادت واجتمعت من منطلق مصالحها المشتركة في المنطقة العربية وغيرها من الدول، وتلك الانقلابات التي شهدتها الساحة الأمريكية التي كانت عائق أساسي في طريق نهضة وتطور أمريكا في ذلك الوقت.
تجربة الانقلابات التي غلفت العديد من الدول العربية ساهمت في تعميق الانقسام في المجتمعات ونشر الجهل والفقر وغياب الاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني ولذلك نطرح السؤال برسم الإجابة: أما آن الأوان لكي يتطور الفكر في تغيير نظام الحكم من خلال مسارات سياسية حقيقية بدلا من انقلاب دموي محكوم عليه بالفشل؟