أ.د محمد الفرجات يكتب: هل يوجد في الأردن معارضة، وكيف يجب أن تكون؟

المعارضة في الأردن غائبة لا تملك رؤية ولا قضية ولا مشروع إصلاحي أو نهضوي، على أن المواطن يريد حياة كريمة وتحقيق مستقبل آمن زاهر ولقمة عيش لأطفاله، وأن التشاؤم يسود المشهد.

الفساد موجود والكل له أخطاء، ولكننا كلنا في مركب واحد في محيط ملتهب وعالم لا مكان فيه لأي دولة تنهار إذ لن يقيم عثرتها أحد، وعلينا جميعا البحث عن حلول متزنة قابلة للتطبيق والتنفيذ، وأن تكون غايتها أولا وآخرا مخافة الله تعالى بالبلد والأجيال الحالية والقادمة.

هذا الوطن ما جاء بسهولة لتضيعه مغامرات وأحلام، فلقد نجح الهاشميون مع الآباء والأجداد على مر القرن الماضي ببناء دولة صلبة متماسكة وإستنهاض شعبها بمكوناته، وكان ذلك وسط عالم مر بحربين عالميتين دمويتين، وإقليم ملتهب مر بأزمات سياسية وحروب وكوارث مختلفة، ونزاعات قبلية وغزو يعصف بنا، مع غياب كامل للخدمات والشبكات والبنى التحتية والفوقية.

فلم تكن الطريق مرصوفة أمام الشريف الحسين بن علي طيب الله ثراه في ثورته وبمساعدة أحرار العرب ضد الحكم العثماني عام ١٩١٦م، حيث سجل على هذا الحكم وشابه في نهاياته الفساد والظلم والإستبداد والدموية والتجهيل ضد العرب.

ولم تكن الطريق كذلك الأمر من السهولة بمكان أمام الملك المؤسس عبدالله بن الحسين بن علي طيب الله ثراه، والذي أسس إمارة شرق الأردن عام ١٩٢١م، وسار بالدولة وبإمكانيات وموارد شحيحة جدا وتحديات جسام إلى الإستقلال من الإنتداب البريطاني عام ١٩٤٦م، ليستشهد في المسجد الأقصى عام ١٩٥١م.

وضع الملك طلال بن عبدالله طيب الله ثراه الدستور، ليتسلم فيما بعد الملك الباني الحسين بن طلال طيب الله ثراه الحكم عام ١٩٥٢م، ليعرب الجيش، ويبنى الأردن الحديث بمؤسساته وجيشه العربي الباسل ، ويشق ويعبد الطرق ويوصل مختلف الخدمات لمحافظات المملكة من ماء وكهرباء، وينهض بقطاع النقل بأشكاله، ويشيد المدارس والجامعات والمستشفيات والمصانع ويدعم الزراعة والإنتاج، ويصارع ببسالة دولة الإحتلال بالحرب والسياسة، وعلى الرغم من شح الإمكانيات، وسطر النصر عام ١٩٦٨م في معركة الكرامة ضد ماكينة عسكرية ظنت وهما أنها لا تقهر ولا تنكسر.

لقد قاد الحسين بن طلال طيب الله ثراه شعبه في مدنه وقراه وبواديه ومخيماته، وزرع فيهم بخطابه وصوته الذي لن ننساه يوما حب العمل والإقدام والمثابرة.

أرسى الحسين بن طلال طيب الله ثراه فكر الدولة المدنية التي يشارك الجميع ببنائها، وسهل الطريق نحو الديمقراطية، وعزز مفهوم دولة المؤسسات والقانون، وكرس العمل نحو الأردن الحديث، بعلومه وخدماته وبناه التحتية، وبنى صداقات وشراكات متينة مع الدول العربية والأجنبية، وأطلق على شعبه الأسرة الأردنية الواحدة، وإنني لا أجد الكلمات توفيه حقه طيب الله ثراه، إلا بالقول أن ملكا بنى دولة وأحب شعبه فبادله الحب، فرحم الله الحسين الباني.

عام ١٩٩٩م شاءت إرادة الله تعالى بأن ينتقل الحسين بن طلال بعد معاناة مع المرض إلى جواره، ليتسلم مقاليد الحكم الملك عبدالله الثاني بن الحسين حفظه الله تعالى.

وعلى أنقاض وحطام إقليم تمزق سياسيا بعد حرب الخليج، وسلسلة حروب العراق، كانت المنطقة تعاني إقتصاديا، فإنعكس ذلك علينا بالتأكيد سلبا، ليجد الملك دولة تعاني إقتصاديا، مقابل شعب طموح وشاب بهرمه السكاني، يطلب الفرص وتحسين ظروفه المعيشية.

فكانت رؤية الملك الأولى تقييم الواقع ووضع الهدف والنظر للمستقبل بحكمة وإستشراف ذكي من ناحية، كما وقد وإستمر على خطى والده بالتطوير والتحديث من ناحية ثانية، فتبنى لذلك نموذجا ناجحا يبحث في إمكانيات وفرص الدولة بواقعية، ويستديم نجاح أجداده وديمومة وعطاء دولته، واضعا نصب عينيه الإتزان والوسطية والصلابة في سياسته، وقد عاير الملك نموذجه الإقتصادي خاصة بالإستفادة من خبرات دول أخرى.

إستمر الملك الشاب إلى جانب ذلك بتطوير وتحديث وتعزيز منعة الجيش العربي القوات المسلحة الأردنية، ووسع مساهماته في مهمات حفظ السلام عالميا، كما وبقي وما زال اليد الحديدية التي تحفظ الوطن ونراهن عليها بفخر.

كما وقد عزز الملك عبدالله الثاني دور الأجهزة الأمنية الاخرى، وحدث وطور على أدواتها لحفظ الأمن الداخلي وحياة المواطن، وجعل كرامة المواطن الأردني مصانة كما ماله وعرضه وبيته، في وطن ينعم فيه الجميع بالأمن والأمان، وسقف حريات مرتفع إلى حد ما، مع الحفاظ على هيبة ومكانة وقوة وصلابة الدولة وصونها من دواعي اللغط والجدال.

واجهت الدولة تحديات أمنية وسياسية ناجمة عن تنامي الفكر الإرهابي عالميا وإقليميا، وكان الإسلام في بؤرة الإتهام، فواجه الملك الأمر بصياغة وبث رسالة عمان بالوسطية والإعتدال، وقدم للعالم نموذجا ملكيا هاشميا مشرفا عن الإسلام.

بينما تصدى بحزم وصلابة وعلى الجبهة الداخلية للتغلغل والتسرب الإرهابي العابر للحدود، كضربات عمان عام ٢٠٠٥م.

حروب لبنان وغزة والعراق كانت أحداثا تتكرر وتلقي بضلالها علينا نفسيا وإقتصاديا وسياسيا، وما زال الملك يسير بدولته ومؤسساتها وشعبها داخليا لبر الأمان، وتقدم الحكومات الخدمات المختلفة والبنى التحتية دون إنقطاع، بينما يدافع ويناور في المحافل الدولية، ويقدم للعالم أسباب الصراع الشرق أوسطي ومعها الحلول بالسلام الشامل والعادل، بينما يبرز دور الأردن في المنطقة كصمام أمان.

بنى الملك تحالفات وصداقات دولية متينة، ووقع إتفاقيات تجارية مجزية لصالح البلد، وحافظ على علاقات عربية حميمة.

دخلت الأزمة الإقتصادية العالمية عام ٢٠٠٨م، وإنعكست على العالم والمنطقة وعلينا بشكل سلبي، ليجدد الملك ويحدث نموجه الإقتصادي، ويعزز القواعد والقوانين لجذب الإستثمار وإطلاق شراكات مع القطاع الخاص، فأوجد المدن الصناعية والتنموية، وأسس لفكر تنمية المحافظات باللامركزية، وناور بعدة طروحات مع حكوماته لإنعاش إقتصاد الدولة، ومكن قطاعات السياحة والزراعة والصناعة، بينما ركز كثيرا على الشباب والريادة والإبتكار والأعمال ومشاريع الطاقة المتجددة.

دخل الربيع العربي عام ٢٠١١م، ليلقي بظلاله على الإقليم العربي، ودخلت المنطقة بأزمات سياسية وإقتصادية وحروب داخلية، أفرزت جيوشا متناحرة وحركات إرهابية مجرمة، ولم تكن بعيدة عن حدودنا، وحاولت الدول الكبرى زجنا بحرب لا عنوان لها سوى أن القاتل والمقتول يصيحان الله أكبر، وحاولت فرق كثيرة التسلل للبلد، فحمى الملك حدوده الشرقية والشمالية بحزم وصلابة وشجاعة ومتابعة ومثابرة ليلا ونهارا، ومع قواتنا المسلحة الباسلة ودوائرنا الأمنية وإنتماء مواطننا.

أفرزت الأزمة وقعا كبيرا على المملكة، فتوافد اللاجئون العرب من الأشقاء الناجين بحياتهم بالملايين، وفتح الملك العربي الهاشمي الحدود لهم، وكان جيشنا يستقبل ويسقي ويضمد جراح وينقل ويأوي، بينما اللاجئون فروا من جيوش وعصابات تقتلهم.

زادت مخرجات موجات اللجوء بعد عام ٢٠١٢م من الضغط على الخدمات الصحية والتعليمية وشبكات الطرق والكهرباء والماء والصرف الصحي والخدمات البلدية، وزاد من الطلب على فرص العمل والسكن والخدمات الأمنية، أمام موازنة تعاني قلة الإيرادات وإرتفاع النفقات بشكل جنوني.

إنتقلت حمى الربيع العربي إلى المملكة، وخرج المطالبون بالفرص والحريات إلى الشوارع، فكان الأمن العام يقدم لهم الماء والعصير، ويتم الحوار معهم ضمن أعلى ما يسمح به الوضع، مع الحرص على منع إغلاق الطرق وعرقلة الحياة اليومية، ووسع الملك قاعدة الحوار الوطني، وفتح المجال للتحديث على الدستور، وقدم الأردن حينها للعالم نموذجا مشرفا لم ترق فيه قطرة دماء واحدة، بينما في دول أخرى تم مواجهة المتظاهرين بالرصاص.

مع كل هذه التحديات كان الملك يدرك تماما بأن عهده سيشهد دخول المئوية الثانية من عمر الدولة الأردنية، وأن هنالك تساؤلات وإستحقاقات، ومطلب ملح لطرح وبناء فكري شمولي لمستقبل الدولة الأردنية.

كان الملك قد إستشعر بما سبق، فناور بحكمة وذكاء وبمشاركة شعبية واسعة بتقديم نماذج ورؤى ك “كلنا الأردن” و “الأردن أولا” و “رسالة عمان”، وقبل أعوام قليلة قدم لشعبه أوراقا نقاشية، تضمنت الرؤية والفكر الملكي ومهدت للقادم.

عام ٢٠١٨م توج الملك خلاصة فكره للقادم وقدم وبشجاعة مشروعه النهضوي دولة الإنتاج، وإشتقه من أوراقه النقاشية التي هيأ شعبه من خلالها فكريا له، ويرى من خلاله مستقبل دولته لعدة عقود، كدولة صلبة ذات مكانة، منتجة وتكتفي ذاتيا، وتحافظ على إنسانها وتتيح له الفرص، وعملت على المشروع حكومة د. عمر الرزاز، ووضعت أطره التشريعية والإدارية والفنية، وبعض الخطط التنفيذية، وتوقعت مصادر التمويل الخاصة بمراحله للسنوات الأولى من عمره.

خطط الملك -حسب قراءاتي- لأن يكون مشروع النهضة بمكوناته، المشروع الفكري العملي الشامل، والذي سندخل كلنا المئوية الثانية من عمر دولتنا من خلاله.

دخل عام ٢٠٢٠م، وكان إستثنائيا وغير مسبوق بوقعه على جميع دول العالم، لتدخل البشرية في صراع مع فيروس عنيد وفتاك وسريع العدوى والإنتشار، ولا يوجد عليه دراسات سابقة، وزاد من التحديات الإقتصادية، بجانب بوادر التغير المناخي.

شكل الملك حكومة جديدة برئاسة د. بشر الخصاونة، حيث أن إنتهاء عمر مجلس النواب القائم، كان قد أنهى معه دستوريا بقاء حكومة الرزاز.

الظروف الصعبة والملحة بسبب زيادة إنتشار الوباء والوفيات محليا، بجانب قرب الإنتخابات النيابية، جعلت جلالة الملك يقدم كتاب تكليف سامي لحكومة الخصاونة بشقين؛ شق حساس وهام يعنى بصحة المواطن أمام الوباء الفتاك، مع إستدامة وإنعاش الإقتصاد الوطني، وشق تقليدي ورد في عدة تكليفات سابقة، ولم يتطرق جلالته البتة للمشروع النهضوي؛ مشروعنا الشعبي الإنتاجي الوطني لدخول المئوية الثانية من عمر دولتنا.

الملك قائد فذ ومخطط إستراتيجي عبقري، وبجانب ذلك فهو عسكري مر، وكان المشهد خلال ٢٠٢٠ يتطلب منع الوباء، وإجراء الإنتخابات النيابية، والحفاظ والإبقاء على ديمومة وجودة كل ما هو قائم من مؤسسات وخدمات وحياة يومية.

صيف عام ٢٠٢١ وجه الملك الدولة نحو تحديثات سياسية تعزز وجود ودور وفاعلية الأحزاب والوصول إلى حكومات برلمانية، بجانب تحفيز دور الشباب والمرأة، وتمكين المحافظات والألوية بتحديث قوانين وأدوار مجالسها كاللامركزية والبلديات.

اليوم التحديات خطيرة، فالدول العظمى تسارع نحو مد نفوذها سياسيا وعسكريا (أزمة روسيا أوكرانيا مثال)، وحولنا تحاول إيران وتركيا كذلك بسط نفوذها، بينما حاولت إسرائيل بدعم ترامب التمدد، وتداخلت في علاقات إقليمية، وقد تطلب منا الأمر دعم جبهتنا الداخلية وزيادة صلابة الدولة بمكوناتها.

القادم لا يحتمل اللغط والتشتت والبعثرة، وإن كان هنالك معارضة فيجب أن تحمل فكرا يساند دولتنا ووطننا وتوجهات القيادة لإستمرار هذا الحمى وهذا البلد، ولها أن تعارض الحكومة بالطرح والبرامج والتقييم.

لقد كانت المئوية الأولى مئوية ولادة وبناء وتحصين الدولة، بينما المئوية الثانية وحسب قراءاتي للفكر الملكي الطموح، ستكون مئوية النهضة والإنتاج والإعتماد على الذات، وتعزيز أمننا المائي والغذائي وأمن الطاقة، والأهم تحصين شبابنا وتمكينهم بفرص العمل، وذلك عبر التوجه نحو الإقتصاد التعاوني والصناديق الإستثمارية الشعبية الوطنية، وتمليكها المشاريع الكبرى القادمة في كافة المحافظات (العاصمة الجديدة ومشروع تطوير وادي عربة ومشاريع الخارطة الإستثمارية للمحافظات)، وهذا مفصل في مقالات سابقة لنا.

 

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى