في ذكرى غيابه: عز الدين المناصرة شاعر الرعوية الكنعانية
بقلم: شاكر فريد حسن
مرّ عام على رحيل وغياب الدكتور عز الدين المناصرة، الشاعر الرعوي الذي استعاد حضارة كنعان، وأغمض عينيه على أشجار عنب الخليل، وذهب في اغفاءة أبدية.
عز الدين المناصرة أنشد ملحمته الكنعانية كآخر الرعاة الذين حرسوا الكرم والجبال الشامخات بنفير النايات، وأمضى حياته منهمكًا في رسم تضاريس الحنين إلى الأرض/ الأم بوصفها “إلياذة” تحتاج إلى تدوين وتوثيق، وهو من أكثر الشعراء الفلسطينيين توظيفًا للتراث الديني، الأسطوري الأدبي، وسعى لخلق رموز خاصة به، تفاعليّة وفاعلة، غدت جزءًا لا يتجزأ من نتاجه التراثي.
حقق المناصرة حضورًا شعريًا بارزًا في الستينات والسبعينات من القرن الماضي، وتفرد بتجربته الشعرية الفلسطينية، واحتفظ بقاموسه الشعري الخاص، وجرأته في توظيف المفردات العامية الفلسطينية، بلغة رعوية طازجة، منشدًا ومتغنيًا بالطبيعة الفلسطينية، وشق لقصيدته نهجًا وخطًا شعريًا مختلفًا عن بقية مجايليه من الشعراء الفلسطينيين، أمثال مريد البرغوثي وأحمد دحبور ومحمد القيسي ووليد سيف وفواز عيد، التي تبلورت تجاربهم الشعرية في المهاجر والمنافي القسرية.
عز الدين المناصرة شاعر متفرد ومختلف ومتميز بصوته الخاص، وله بصمته الواضحة في التجربة الشعرية الفلسطينية الحديثة، جعل من التعبير الشعري شكلًا من أشكال الالتصاق والالتحام بالأرض الفلسطينية، موروثاتها وعناصرها وموجوداتها وأساطيرها ونباتاتها وجبالها وصخورها ووديانها وينابيعها، فكان المؤسس للرعوية والكنعنة الشعرية في القصيدة العربية الحديثة، ورائد شعر التوقيعة وقصيدة الهوامش في الشعر العربي الحديث، ومبدع ظاهرة تفصيح العاميات، بالإضافة إلى أنه من الشعراء الرواد في توظيف الموروث العربي، ومن الشعراء العالميين، لما تميز به من خصوصية وفرادة شعرية على صعيد الجمع بين نبرة الحداثة، ونبرة المقارنة، وشكل نقطة مضيئة ومتميزة في تطور شعر التفعيلة ليس باعتباره مجرد امتداد شكلي لتجربة الرواد بدر شاكر السيّاب ونازك الملائكة وعبد الوهاب البيّاتي، وإنما باعتباره إضافة نوعية ذات خصوصية لمجمل التجربة الشعرية العربية في مجال تطورها البنائي والدّلالي.
أنتج المناصرة أحد عشر ديوانًا وكتب ما يقارب العشرين كتابًا في النقد والبحث الأدبي والتاريخ والفكر والثقافة الشعبية والفن التشكيلي والسينما والموسيقى، وأنشد الشعر في الكثير من العواصم العربية والأوروبية، وترجمت أشعاره وقصائده إلى لغات عديدة، وأدهش الجمهور العربي والأوروبي.
وفي توقيعاته النثرية يمزج المناصرة رعوياته الكنعانية بأشكال من الكتابة الشعرية الجمالية في محاولة لانتهاك بنية الشكل الشعري، وتخليصه من الانهاك الجمالي نتيجة للتكرار وتغير شروط الكتابة الشعرية وتبدل زمانها.
وجفرا من أهم الرموز العاطفية في شعر المناصرة وفي الشعر الفلسطيني والعربي، وهي الناقل للمعاناة الفلسطينية، إنها الأرض والأم والاخت والحبيبة، وهي الأم المخطوفة عند الحاجز، والمرأة التي تقتل وترمى في التابوت إلا أنها تعاود الانبعاث من جديد، وجفرا المناصرة هي أسطورته الحية التي تبعث لتكون رمزًا حيًا لكل فلسطيني.
ونجد المناصرة يمازج في علاقة عضوية بين جفرا الوطن وجفرا المرأة، وفي بعض قصائده تختلط صورة الأرض والوطن والثورة والمرأة ببعضها، وتمتزج مع بعضها كعمل إبداعي فني، وتصبح رمزًا للثورة الفلسطينية، كجزء من تجربة إنسانية أعم واشمل، حيث تذوب الملامح الذاتية للعاطفة الخاصة في العاطفة الكبيرة، عاطفة الحب للأرض السليبة المغتصبة والوطن المجروح الحزين، فيقول:
جفرا عنبُ قلادتها ياقوتْ
جفرا… كانت خلف الشُبّاك تنوحُ
جفرا كانت تنشد أشعارًا…وتبوحُ
بالسر المدفون في شاطئ عكا … وتغني
وأنا لعيونك يا جفرا سأغني
سأغني
سأغني
جفرا ظلت تبكي في الكرمل،
ظلت تركض في بيروتْ
وأبو اللَّيل الأخضر، من أجلك يا جفرا
يشهق من قهرِ شهقتهُ… ويموت!!!
وأفاد المناصرة من المثل الشعبي ليتقرّب به إلى وجدان جمهوره ويتواصل بلغتهم وبثقافتهم وبقضاياهم وبتجاربهم، معطيًا إياه نبضًا جديدًا وحياة جديدة مجسّدًا من خلاله، أبعاد تجربته الشعرية.
وقد توسّع المناصرة في توظيف الرمز التاريخي ليشمل التُراث الكنعاني القديم، حيث أسّس القصيدة الحضارية الكنعانيّة، ويمكن اعتبار الكنعنة محورًا رئيسًا في أعماله الشعرية الإبداعية، وأطلق اسم كنعانيذا على أحد دواوينه الشعرية، لنسمعه يقول:
“يا سيدتي الكنعانيَّة
جرَّتُك دليل العشاق، عطاشٌ في بريَّة لوط
جرتك المشويَّة في الطابون
تحرسها هالاتٌ وإشاراتٌ سحرية:
نَقْمَشَةٌ لرغيف
حجرٌ منقوش كعروس في ليلة دخلتها
… أسراب النورس في مُنعرجات البحر الأبيض
أبيضُ، أبيضُ، يا أبيض
كم يذبح أوردتي اللحم الأبيض
كم يدهشني الأبيض يا متوسط
كم تقتلني الفِتنُ الكبرى في أطراف عروق التطريز
كم راقبتُ حمامةَ وادينا حين تحطُّ على الإفريز
“مرَّت مرَّت.. ما مرَّت/ مرَّت… ما مرَّت
مرواد الكُحُل في العينِ مرَّت…”.
وفي المجمل يمكن القول، عز الدين المناصرة من رموز الشعرية الفلسطينية، التي شقت دربًا جديدًا للقصيدة العربية المعاصرة، مازجًا بين الأشكال، وانتهاك التقاليد الشعرية، ولكن لم يأخذ أبداعه حقه في الدراسات والقراءات النقدية الفاحصة، فله الخلود وطيب الذكرى.