هدير عادل تكتب: موعد مع السعادة!
لا أقصد بالعنوان ذلك الفيلم المصري الصادر عام 1954، بطولة فاتن حمامة وعماد حمدي.. بل الفاصل الزمني، الذي نقتطعه في أشهر الصيف الكسول، للبُعد عن ضغوط العمل والحياة، وخطف لحظات المتعة بين شاطئ ورمال.
موعد “المَصْيف” -بنُطق المصريين- هو موعد من شغف وسعادة بالغَيْن، منذ كنت طفلة تنتظر إعلان الأسرة عن هذه الرحلة نحو البحر، ليوم واحد أو لأيام، بصحبة المقربين.
كان إعلانا أبويا سعيدا كأنه عيد موسم الصيف، وربما كانت أفضل ذكريات الطفولة بالنسبة لي ولكثيرين أيضًا من جيلي والأجيال السابقة واللاحقة، تلك المرتبطة بالشاطئ المفتوح والسماء الصافية.. هنا نبني قلاعًا من الرمل.. وهناك موج يخطف متاعب العام من زائريه “الشقيانين”.. وفي موضع ثالث شمس تغطي الجميع ويعودون منها بلون أسمر يبقى فترة على جلودهم لما بعد الرجوع من رحلة “المصيف” كعلامة على الراحة والسعادة واستئناف النشاط لعام جديد ولعمل جديد.
تبدو هذه المشاعر الآن من الماضي. فقد مررت ببضعة منشورات على شبكات التواصل الاجتماعي تتحدث عن أن “مشاعر المصيف لم تعد كما كانت”، وافتقد الناس بريق تلك الأيام الذهبية، التي يزينها في ذاكرتنا لون البحر ووَنَس صافرات رجال الإنقاذ على الشواطئ.
يتحدث البعض حاليًّا -وأتفق معهم في ذلك- عن أن الذهاب إلى الشواطئ أصبح للتباهي الطبقي بالوجهات باهظة الثمن، والتي يمكن للبعض الذهاب إليها دون غيرهم من الأرق حالا، بل حتى إن الأمر وصل إلى حد التفاخر بماركات “المايوه”/زي البحر.. حتى ما يسمونه “البوركيني”/مايوه المحجبات صارت له أشكال وألوان مختلفة تدل على طبقة من يرتديه. كذلك النعال التي يرتديها المصطافون صارت تسمى بتسميات إنجليزية كنوع من الترقي. فـ”الشِّبْشِب” المصري صار “سليبر/slipper”. فهذه الكلمة كانت موجودة في الإنجليزية منذ القدم.. فلماذا الآن تم استدعاؤها في لغتنا؟
لعله نوع من التنصل من الهوية أصابنا في مقتل.
صحيح أننا عندما نتجه إلى منطقة ما أو نزور مكانا سياحيا نشارك صورنا ولقطاتنا الخاصة عبر الشبكات الاجتماعية، سواء بمقطع فيديو أو بصورة تعكس جمال ما نرى، لكن الأمر تجاوز ذلك إلى حالة دعائية وإعلانية بأن صاحب هذه الزيارة قد صار ميسور الحال وليس إلى “المصايف الشعبية” المزدحمة التي يتردد عليها الفقراء ممن لا يمكنهم تحمل نفقات تلك الأماكن التي مكّنه دخله من اللحاق بركْبها.
لا يهمني في “المصيف” إلا هذه الحالة الصافية من الذكريات، التي أستعيد بها راحتي النفسية برفقة أهل وأصدقاء وطبيعة لا تبخل علينا بجمالها.. وعندما تأتي أشهر الصيف أميل إلى اختيار مكان بمعايير قديمة، وليس بما يتماشى مع العصر الحديث من تصنيف للأشخاص عبر القدرات المادية، أو الماركات التي يستخدمونها.. أريد أماكن تتوافق وذاكرتي، حتى وإن تغير شكلها الحالي وفقدت بريقها.. لأن بريق ماضيها لا يزال يلمع.
بالطبع جودة المكان والملابس لا يمكن التنازل عنها لكن سر جمال الأشياء يكمن في “الصحبة” وما تمثله لنا من “ذكرى” مفرحة.
في كل مرة أتفحّص حسابي على “فيسبوك”.. يظهر لي ذاك المنشور، الذي يتحسّر على الماضي الجميل الذي لا يعود، وانتهاء شعور أوقات المصيف الحقيقية على البحر، أشعر بذلك تمامًا، وأتذكر كيف كان الماضي أبسط وأبهى مما هو عليه الآن من حداثة صيفية!
أتذكّر “ساندوتشات” الإفطار على البحر.. ضحكات ووقع أقدام الصغار على الرمل.. لعب الشواطئ.. صيحات الارتماء في الماء القادم على شكل موجات متتابعة تمحو في كل مرة طبقة من متاعب الجسد والروح.. كل ما أحتاج إليه إذًا أن أقرر الاستمتاع واستجلاب السعادة وخطف وقت مستقطع من الحياة مع الأصدقاء والأهل، بغض النظر عن المكان أو الملابس ذات الماركة المستوردة.
لا أحتاج -مثل غيري- إلى إنفاق آلاف الجنيهات لشراء السعادة.. هي متاحة داخل كل منا.. فلنعدْ إلى ماضينا، ولو قليلا، هذا ليس ضد الحداثة وما يتطلبه العصر.. بل يعزز وجودنا في هذا الزمن أننا لا نزال نملك ذكريات.. إنّ السَّيْر مع الرائجة لا يحقق متعة، بل إن التغريد خارج السرب الحالي هو مصنع من مصانع السعادة، التي لن تُغلَق أبدًا ما دامت فينا روح الذكرى.
كاتبة مصرية