مهدي مبارك عبدالله يكتب : الاتجار بأوجاع المرضى لصوصية بغطاء مهني
في عالم غريب عجيب طغى عليه توحش المادة وخلى من مبادئ الإنسانية وأي معايير للأخلاق والقيم سيطر فيه المتنفذين بعدما حولوا علاج المرضى الى صفقات تجارية محلية واقليمية وعالمية غايتها الكسب السريع والاستحواذ على المليارات من الدولارات التي تقطع من أجساد الفقراء التي أنهكها المرض وهدتها الحاجة باستغلال معاناتهم وابتزاز ظروفهم بلا شفقة او رحمة
الخطورة على حياة كثير من المرضى لم تعد تقتصر على غلاء الأدوية او عدم توفرها بل تعدته إلى الغش في صناعتها ومكوناتها مما جعل الضرر على الفقير ابن الطبقة الوسطى المهترئة يتضاعف الى ضررين الأول في المال والثاني في الدواء المغشوش أو غير المجدي بالعلاج
كثير من المواطنين يعانون وبشكل عام من تردي النظام الصحي الذي يشهد اختلالات كبيرة وتتعدد فيه جوانب الفساد مع وجود خلل واستهتار بعلاج وحياة المرضى في بعض المستشفيات الحكومية والخاصة ناهيك عن ان هنالك بعض من الاطباء يحترفون السلب والنهب من خلال ما يسمى بـ (عقد شركة منظم ) مع بعض الصيادلة وأصحاب المختبرات الصحية إضافة إلى سيطرة عناصر مصلحية في قطاع الصحة شكلت لوبي خطير في عمليات شراء الأدوية قليلة الفاعلية والتجهيزات الطبية ضعيفة الجودة فضلا عن التحكم بأسعارها وفق رغباتهم الشخصية
هذه الظاهرة برزت بقوة اثناء هيمنة وانتشار جائحة كورونا التي ألقت بظلالها الوبائية المتفردة على عالم ( النصب والاحتيال والمافيا والتهريب ) في العالم كله حيث تمثلت وقائعها في استغلال حاجة والام الناس وقد ظهرت عناوين إخبارية عديدة بهذا الخصوص تفضح بلطجية الدواء والمتاجرين بآمال المصابين بالشفاء مثل ( سقوط مافيا الكمامات وإلقاء القبض على عصابة تدوير النفايات و التضييق على محتكرو أدوات التعقيم واغلاق معامل منزلية لصناعة الكمامات المميتة ) والأكثر غرابة قيام بعض الأطباء ببيع الوهم عبر وصفات طبية خارقة وغير حقيقة لعلاج كوفيد 19وسلالاته المتحورة
معظم مصنعو الأدوية في العالم ينتهجون نفس أساليب وطرق صانعي الحروب في تسويق الأسلحة بهدف بيع أكبر كمية ممكنة من الأدوية لتحقيق أرباح خيالية وكثير من الملفات والحكايات والتجارب اليومية بين الناس تحفل وتنضح بمختلف صور النصب والاحتيال والكذب وما حدث خلال اجتياح فيروس كورونا العالم أكبر شاهد على ذلك حيث حققت مافيا صناعة الدواء العالمية مليارات الدولارات ومازالت حتى اليوم تستنزف أموال الدول في معامل الدراسات والبحث عن العلاج وبما يتخطى نفقات الحروب وهنالك الكثير من شركات الأدوية اعتادت على تقديم الهدايا والمكافئات واقامة الحفلات الكبيرة للمندوبين والأطباء والصيادلة لتمرير منتوجاتها من بعض العلاجات الرديئة او القديمة والمعاد تدويرها بأسماء ومدة صلاحية جديدة
الملاحظ في هذا الشأن انه عند دخولنا إلى بعض عيادات الأطباء نجد مندوبي الأدوية عند باب عيادة الطبيب بشكل مستمر خاصة إذا كان هذا الطبيب مشهوراً أو يعمل في مستشفى ذائع الصيت وللوهلة الأولى نظن أن المسألة لا تتعدى مجرد تعريف بمستجدات الادوية وأنواعها وطرق التعامل معها ولكن كما يقال ان ( وراء الأكمة ما وراءها ) فمندوبو تلك الشركات يهدفون من خلال هذا التواجد شبه الثابت الى تصريف جميع أنواع الأدوية لوكلائهم على حساب المرضى واوجاعهم بإيهامهم عن طريق الطبيب المعالج بأن هذا الدواء هو الأنسب والفعال والأصلح دون غيره
أي مريض لن يشك طبعا ولو لحظة في صحة وصفة دواء الطبيب بحكم الثقة أولاً وقسم الأطباء ثانياً الذي يؤدونه عند التخرج لأن مهنتهم في الأصل لا مكان فيها للتلاعب أو التضحية بصحة الناس كما أن العاملين الأخلاقي والإنساني يفترضان على الطبيب عدم اللجوء لهذا النوع من الاحتيال المتعلق بصحة وسلامة الناس
الإغراءات التي تقدمها شركات الأدوية لبعض ضعاف النفوس الذين باعوا ضمائرهم من أجل المال ولم يردعهم وازع ديني أو أخلاقي او إنساني عن ارتكاب جرائمهم التي لا تليق بمن يمارس في أشرف مهنة وهم يروجون وينصحون لنوعية معينة من الأدوية لا تتوافق ربما مع صحة المريض أو يوجد ما هو أفضل منها لكنهم ينصحون بدواء معين لأن وكيلهم يعطي مكافآت وتذاكر سفر وغيره لهؤلاء أشباه الأطباء وما أكثرهم بعدما بات التسويق الطبي مهنة من لا مهنة له
في دوامة هذا الواقع المرير يبقى المريض المعدم اسير عصابة طبية تسرقه وتستغل حاجته وجهله وتتاجر بمرضه وهنالك بعض الصيادلة أيضا لا يقلون خطورة في هذا الموضوع عن الأطباء حيث يعطون النصائح التي تخدم شركات معينة سواء فيما يتعلق بالأدوية والمكملات الغذائية أو الكريمات وأصباغ الشعر حيث يحرصون على تصريف المنتجات مرتفعة الثمن لترتفع النسبة التي يحصلون مع استمرار تزكيتهم لبعض المشافي وعيادات التحاليل الطبية والصور الشعاعية التي تكرمهم ماليا اوعينيا
العديد من التقارير الرقابية الخاصة بالمجتمع المدني تشير إلى أن مافيا الأدوية تشكل دولة داخل الدولة وقد حذرت نقابة الصيادلة في إحدى الدول العربية في بيان لها في وقت سابق من وجود ما سمته يـ ( مافيا تجارة الأدوية المغشوشة ومنتهية الصلاحية والمعاد تدويرها ) حيث يتم بيعها للمواطنين عبر بعض التطبيقات والمواقع الإلكترونية وبعض عيادات الأطباء وهو ما يمثل خطراً شديداً على صحة المواطنين الذين يستغلهم هؤلاء التجار بتقديم تخفيضات كبيرة على اسعار تلك الأدوية تغريهم بشرائها رغم عدم جدواها
في ذات السياق تبين العديد من المصادر الطبية المستقلة والمحايدة ان عصابات مافيا الدواء أحكمت قبضتها كذلك على مفاصل البحث العلمي الكبرى حيث لم يعد بالإمكان تصديق كثير من البحوث السريرية المنشورة أو الاعتماد على حكم الأطباء الموثوق بهم أو الإرشادات الطبية الرسمية ولو تصفحت وجوه الناس لوجدتها تقص عليك كثيراً من الالام والأحزان التي رأتها عيونهم في عيادات الأطباء وعلى عتبات المستشفيات ولوجدت قلوبهم أيضا تغص بما اكتوت به من نيران الطمع والجشع والسلب المنظم الذي يعيشه جانب كبير من قطاع الصحة في بلادنا
في عام 2018 عقد البرلمان الأوروبي جلسة خاصة استمرت ساعتين تحت عنوان إمبراطوريات الطعام والدواء هل ( تقتلنا من أجل الربح ) شارك فيها عدد من المتخصصين الذين تحدثوا عن وجود تضارب كبير في أروقة عالم مافيا الدواء لكنه في النهاية رغم كل الاختلافات يلتقي على مبدأ المصالح المشتركة وما لها من تبعات كارثية تضر بالطب وتدمر الصحة العامة ( مافيا صناعة الدواء تحقق عوائد ارباح سنوية تتعدى حاجز التريليون دولار دون أي اعتبار لأي ضوابط أخلاقية يتوجب حضورها في هذه الصناعة الأكثر خطرا على مصير وحياة الإنسان رغم أن الكثير من عناصر الأدوية المشهورة في أساسها عناصر محلية درست ووثقت ثم أعيدت في أغلفة أنيقة
في الماضي القريب كانت قيمة صناعة الدواء تكمن في قدرتها على شفاء المريض أما الآن فقد أصبح الربح المادي هو الاعتبار الأول وكدليل على ذلك هل تذكرون في عام 2001عندما خاضت بعض الشركات الدوائية العالمية مجتمعة حرباً قضائية ضد حكومة جنوب إفريقيا لمنعها من توفير أدوية الإيدز لمواطنيها بأسعار مناسبة من خلال الترخيص بإنتاجها محلياً الأمر الذي استنفر الرأي العام العالمي ما اضطر هذه الشركات إلى سَحب دعواها
الحديث عن المستشفيات الخاصة يطول ويحتاج لوحده الى مقال متخصص او حتى بحث منفصل ومعظم هذه المشافي تصنف على انها فنادق خمس نجوم ذات إقامة مرتفعة جدا ومعظمها مشاريع استثمارية طبية مخصصة لتحقيق الربح فقط واغلبها تهتم برفع مستوى الخدمات ( نظافة ديكورات أسرة ممرضات استقبال سيارات مباني ) على حساب الجودة الطبية والاختصاصات الضرورية حتى ان السلام والابتسامة له تسعيرة خاصة لديهم كما يقولون على سبيل المداعبة
كثير من هذه المشافي يرفض ادخال المرضى مالم يكونوا مؤمنين بدرجة عالية او يضع ذويهم مبلغ مالي او شيك مصدق على الحساب لا حظ هنا الاستغلال كان ( يطلب من المرضى دفع 3000 دينار أردني قبل دخول المريض اذا كان مصاب بكورونا وبعضهم في عشرة أيام فقط تم مطالبتهم بـ 15000 الف دينار لقاء إقامة المريض والأشراف الطبي وإعطاءه بعض الادوية البسيطة ووضعه على جهاز التنفس ) وقد سمعت أيضا العديد من المواقف والقصص الأليمة التي رفضت فيها بعض هذه المستشفيات تسليم جثث المتوفين خاصة الأطفال حديثي الولادة لأهاليهم بسبب عدم سداد فاتورة المستشفى وحرمانهم من حقهم الإنساني الذي نصت عليه كافة الشرائع السماوية التي تحث على اكرام الموتى بدفنهم
في العالم الثالث تسيطر الشركات العالمية على معظم أسواق الأدوية سواء عن طريق التصدير المباشر أو احتكار مواد التصنيع الأولية كما يعد استغلال المواد الخام للدول النامية هو أساس عمل مافيا الدواء في العالم ففي كينيا وحدها نباتات طبية تفوق ما يوجد في أوروبا وأمريكا وتحتكر استخدامها شركات من أوروبا وأمريكا ومن بين 12 ألف شركة دواء حول العالم تحتكر 25 شركة فقط نصف صناعة الدواء العالمية حيث تستحوذ الشركات الأوروبية والأمريكية على الحصة الأكبر في سوق الدواء العالمي في حين تعد بلدان العالم النامي المستهلك الأول للعقاقير
بعض شركات الأدوية إقليميا ودوليا تتعمد وبشكل دوري إثارة الهلع والرعب في نفوس الناس من خلال تسويق أمراض قديمة على أنها جديدة تشكل خطراً على حياة الإنسان ومن ثم تبيع أكثر أدويتها القديمة في حلة جديدة والأمثلة كثيرة على ذلك فهناك شركات عالمية مختصة فيما يسمى بـ ( التوجيه النفسي لتسويق الامراض ) عبر آلتها الإعلامية الضخمة حيث تقوم بترويج معلومات طبية خاطئة مبنية على حقائق وهمية وهو ما يثير الفزع ويسهل عملية الإقبال على شراء دواء معين وفي الوقت الذي يشكو فيه المواطن من قدراته الشرائية الضعيفة تبالغ تلك الشركات في رفع أسعار منتجاتها لتغطية مصاريف براءة الاختراع والأبحاث والدعاية وعمولات الموزعين وغيرها
القاعدة الأخلاقية والإنسانية تفترض إن الحق في الصحة ملازم للحق في الحياة إلا أننا نجد أن ذلك مسلوب في كثير من الأحيان وان معظم الفقراء ليس لهم تأمينات صحية ولا مكان على الخارطة العلاجية ناهيك عن ان البنية التحتية والإمكانات والاستعدادات في كثير من المستشفيات الحكومية سيئة جداً بالإضافة إلى عدم قدرتها على استيعاب كل المرضى وتوفير الأدوية اللازمة في المقابل لا يستطيع 85 % من المواطنين التوجه للعلاج في المستشفيات الخاصة وكم من حالة لجأت اليها كأمل أخير في الحياة وتم إلقاؤها في الشارع بسبب ارتفاع المصاريف التي لا يملكها الفقير في ظل مستوى المعيشة المنخفض و الأزمة الاقتصادية المتفاقمة
الحديث الذي سقناه انفا نرجو ان يفهم في سياقه وغاياته وهو بالطبع لا يشمل كل الشركات الدوائية ولا جميع الأطباء والصيادلة والمختبرات والمستشفيات او العاملين في القطاع الصحي الحكومي والخاص فهنالك الكثير من المخلصين والصادقين المحافظين على الضمير والقسم والإنسانية والذين يقع العبء الأكبر عليهم في المستقبل لأنهم بصيص الأمل في عتمة الليل المدلهمة بعدما صار ( الطبيب الخبير الشريف الأمين عملة نادرة )
أخيرا مع استمرا هذا المشهد البشع من الجشع المخيف والاستهتار العظيم والذي لن يردعه إلا تفعيل القوانين الحاسمة وتطبيق العقوبات الرادعة لكل من يمتهن تجارة الغش في الطب والدواء ويشوه المهنة الشريفة ويضر بصحة الناس وعليه لابد من زيادة الرقابة والانتصار للمريض بالإضافة الى عقد المحاضرات والندوات وورش العمل وتوزيع النشرات للتعريف بمختلف الأدوية والمكملات العلاجية واسعارها والتحذير من شبكات الإجرام الطبية أعداء الله والانسانية التي تتاجر بكل قسوة بآلام المرضى وأوجاعهم.