مهدي مبارك عبد الله يكتب: نبض الضفة لن يهدا مادام فيها موطئ قدم للاحتلال
الواقع بالضفة الغربية يزداد خطورة وتعقيدا حيث تشهد معظم مناطقها توتراً ملحوظاً منذ بداية العام الجاري والمواجهات المسلحة شبه يومية بين المقاومين الفلسطينيين وقوات جيش الاحتلال الإسرائيلي ردا على الاقتحامات الإسرائيلية اليومية للمدن والمخيمات الفلسطينية بالضفة الغربية المحتلة
جميع الساحات ملتهبة ونشطة وحساسة للغاية ومشاهد إلقاء الحجارة والزجاجات الحارقة نحو قوات الاحتلال لم تعد تقتصر على مدينتي جنين أو نابلس وباتت تطال جميع المناطق والقرى الفلسطينية بعنف وشراسة ومن المتوقع ان يكون للاحتفالات المرتقبة بالأعياد اليهودية وانتخابات الكنيست واحتفالات رأس السنة العبرية ويوم الغفران اليهودي تأثيراً كبيراً على تطور مجريات الأحداث اتجاه الأسوأ في الشهر المقبل والأيام القليلة القادمة
الإدارة الامريكية طالبت مؤخرا إسرائيل بالتراجع عن سياساتها وممارساتها المفرطة بخصوص تطبيق قواعد الاشتباك في الضفة الغربية لكن تل ابيب ردت عليها انه لا ينبغي أن يكون هناك أي تدخل سياسي من أي جهة كانت في التعليمات الخاصة بأطلاق النار وفوق ذلك تعهدت القيادة العسكرية العليا بدعم جنود الجيش ومنعهم من المسائلة وتوفير الحماية القانونية لهم ولا زالت إسرائيل حتى الساعة تضغط بقوة على السلطة الفلسطينية للتصدي بحزم وعنف للعمليات الهجومية المتواصلة ضدها واحباطها ومنع تمددها إلى داخل الكيان ومناطق الأغوار التي نادرًا ما شهدت عمليات للمقاومة بسبب طبيعتها الجغرافية الخاصة
الملاحظ في هذا الشأن ان جموع الشباب الفلسطينيين الذين يشتبكون مع قوات الجيش على مداخل المدن والقرى يختلفون عن حشود المتظاهرين التقليديين فهؤلاء الشباب يعايشون ما يحدث على صفحات التواصل الاجتماعي ويتواصلون معا وينضمون أنفسهم بسرية وسرعة كما انهم يعتبرون الخلافات والانقسامات في الشارع الإسرائيلي فرصة مواتية للانقضاض على قوات الاحتلال وهي أيضا مدعاة للقوة والتمكين
كما انها دليل على ضعف وتراجعا المشروع الصهيوني عدا عن ذلك فإن كثير من هؤلاء المقاومين يتصرفون بقرارات ذاتية في استهداف قوات الجيش وأكثرهم لا ينتمون لأي تنظيمات او فسائل فلسطينية بشكل رسمي ووفقا لتقديرات جيش الاحتلال الإسرائيلي ورصد اجهزته الأمنية فان ( هناك أكثر من 200 ناشط فلسطيني شاركوا مؤخًرا في الاشتباكات في نابلس وحدها وهذه أرقام كبيرة ومخيفة لم تشهدها الضفة الغربية منذ سنوات )
من الأمور المقلقة والمفزعة للإسرائيليين زيادة عمليات إلقاء الزجاجات الحارقة التي يتطلب إعدادها جهد وتخطيط مسبق بخلاف إلقاء الحجارة فقد بلغ عدد الزجاجات الحارقة التي تم إلقاؤها تجاه قوات الجيش والمستوطنين ما يقارب من ألف زجاجة منذ بداية العام الحالي ولهذا على قادة الاحتلال ان يعملوا جيدا ان استمرار قتل الفلسطينيين سوف يساهم بلا ريب في زيادة حدة الكراهية ورفع وتيرة المواجهات المسلحة حيث بلغ عدد الفلسطينيين الذين استشهدوا على مدار الأشهر الماضية 85 فلسطيني بأعمار شبابية مختلفة
ربما يكون صحيح على ارض الواقع ان الجيش الإسرائيلي نجح في تحقيق أهدافه من عملية كاسر الأمواج وخطة جز العشب لضمان حرية عمله في مناطق الضفة وحماية حدود التماس إلا ان تصاعد المواجهات العنيفة وزيادة حدة التوتر باتا سيدا الموقف رغم ان كل اقتحام للمناطق الفلسطينية يساهم في تراجع مكانة السلطة الفلسطينية ويقلص من فعاليتها وقدرتها على العمل في كل يوم أكثر وأكثر
الخيارات العملية والتكتيكية والأمنية تضيق تدريجيا امام الاحتلال ومن بين الوسائل المطروحة في محاولة ابعاد الشباب الفلسطينيين عن المشاركة في العمليات العمل على تحسين ظروف معيشتهم الاقتصادية ومنحهم مزيد من تصاريح العمل في إسرائيل ومن الجدير بالذكر هنا الإشارة الى انه في عام 2021 سجلت 91 عملية فقط منها 16 عملية استهدفت مستوطنين و75 استهدفت قوات الاحتلال فيما نفدت منذ بداية العام الجاري وحتى الآن أكثر من 150 عملية منها ما يزيد عن 130 عملية استهدفت قوات الاحتلال كما شهدت مدن شمالي الضفة الغربية عمليات عديدة لإطلاق النار باتجاه الجنود وثكناته العسكرية والمستوطنين خلال الأشهر القليلة الماضية
لا حظوا هنا المفارقة ففي الوقت الذي كانت فيه جهود الاحتلال تتركز على مدينتي جنين ونابلس شمالي كونهما معقلي الثورة ومركز النشاط الفلسطيني المقاوم في الضفة في الآونة الأخيرة جاءت المفاجئة في عملية إطلاق النار في الأغوار وفي مكان غير متوقع وتبعها عملية ثانية خلال ساعات قليلة غربي رام الله وسط الضفة وان هاتين العمليتين وغيرهما يشيران بشكل لافت الى انتقال الضفة من حالة الدفاع إلى قوة الهجوم
طرق ووسائل واستعدادات المواجهة الفلسطينة تغيرت فبينما كانت قوات الاحتلال تقتحم عمق مناطق الضفة على مدار سنوات عديدة دون أي معيقات أو مقاومة تذكر باتت في الأشهر الأخيرة تتعرض لإطلاق نار عند كل اقتحام تقريبا وأصبحت تتعرض لعمليات هجومية على الحواجز وفي الطرقات وفي مناطق غير متوقعة خاصة بعدما استطاع المقاومون اختراق كافة التحصينات والإجراءات الإسرائيلية وبأساليب اتسمت بالتنظيم والتخطيط العالي والاستطلاع الجيد وهو ما مكنهم من فرض منطقة الصراع الخاصة بهم والوقت الذي يناسبهم وبما يتوفر لديهم من أسلحة فردية ذات مناظير دقيقة وقدرات متطورة
تزايد عمليات المقاومة الفلسطينية ضد الكيان الصهيوني وما رافقها من تطورات دوليّة وإقليمية كان لها نتائج سياسية ملموسة ظهرت ملامحها واضحة من خلال اشتداد الخلافات وتفاقم الأزمة السياسية داخل الكيان الإسرائيلي والتي أدت الى الانشقاقات المفاجئة في الائتلاف الحكومي حيث كان لهجمات المقاومين الفضل الأول في اسقاط رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت وحكومته السابقة التي فقدت الأغلبية في الكنيست مما فرض على كيان الاحتلال التوجه إلى انتخابات جديدة ومبكرة
معظم الإسرائيليون يشعرون أنهم إذا بقوا في الضفة الغربية فلن يكون لهم مستقبل وإذا غادروها كذلك لن يكون لهم مستقبل لكنهم في حيرتهم هذه وفي ظل هذا التصور الاناني يتناسون ان الاحتلال هو المسؤول المباشر عن سلوكه العنيف والاستفزازي والذي ادى الى تصاعد وتيرة الاحداث وزيادة الاحتقان والتوتر من خلال تصفية المقاومين وإراقة دماء الأبرياء وممارسة سياسة التمييز والفصل العنصر والتطهير العرقي وهدم المنازل واقتحام الأماكن الدينية وتوسيع رقعة الاستيطان وإغلاق الطرق والمداخل الفرعية في مختلف المدن الفلسطينية ناهيك عن ان هناك أصلا توجه نفسي وطني متجدر وملل عام من العيش في ظل الاحتلال
الأحداث المتسارعة مجتمعة تؤكد على أن موجة النضال الهادر التي يقودها الشعب الفلسطيني وهو يعلن تمسكه بكل الوسائل المشروعة بتحرير كامل ارضه وانتزاع حقوقه لا يمكن أن يثني عزيمته تصعيد الاحتلال لإجراءاته التعسفية والانتقامية الاجرامية بعدما أصبح جنوده في وضع مرتبك ومتخبط كما ستبقى تلك الجماهير الفلسطينية الوفية والمخلصة حاضنة شرعية لهذه الموجة الثورية ورافعة لها رغم الرهان الخاسر على تعاون وتخاذل سلطة أوسلو
السياسات الإسرائيلية المتغطرسة ومنذ بدايات النكبة عملت على تكريس واقع الاحتلال وإدامته في خرق صارخ وفاضح لقواعد وإحكام القانون الدولي وحقوق الانسان عبر ممارسات مشينة تعد من جرائم الحرب الدولية فضلا عن مساهمة الاحتلال المرفوضة والمدانة في تغذية وتوسيع دائرة العنف المتصاعدة وتقويض جميع فرص التوصل إلى اتفاق على أساس مشروع حل الدولتين وإقامة السلام الشامل والعادل في المنطقة وكل ذلك تم في ظل صمت دولي شامل شجع حكومات الاحتلال على تماديها في ارتكاب جرائمها في الضفة الغربية وغزة دون وازع أو رادع
لا بد ان نعلم ان مفهوم السلام والأمن لدى قادة الاحتلال هو ( مجرد شعار فقط ) ولا يمكن له أن يتحقق على ارض الواقع في إطار التوسع الاستيطاني وتشريع القوانين العنصرية وانحياز منظومة القضاء واتخاذ الاجراءات الاستفزازية التي تمس مشاعر المسلمين والمسيحيين على حد سواء وهو ما جعل الكيان الإسرائيلي منذ سنوات عديدة يقف جامدا في مسار سياسي معقد يدفع بالمنطقة نحو الدمار الشامل
قوات الجيش الإسرائيلي والاذرع الأمنية الأخرى فقدوا القدرة على وقف دخول المقاومين بشكل كامل عبر خط التماس والقيام بعمليات إطلاق نار وشن هجمات في الضفة ضد المعسكرات والمستوطنات وخاصة أثناء عمليات اعتقال المقاومين بالإضافة الى عمليات الطعن المتكررة في مناطق الخط الأخضر مما يؤكد ان استمرار غياب أي اتفاق سياسي جاد بين تل ابيب ورام الله يعني بقاء دوامة الصراع وإدارته إلى الأبد بالتصفيات والقتل
دون تحميل أي عواقب أو مسائلة لقوات الجيش على جرائمها المتواصلة وفي الحقيقة أن الوصول لمثل هذا الحل في هذا الواقع يبدو ضرب من الوهم والخيال ولهذا فان الأوضاع بالضفة الغربية على وشك الانهيار وهذا ما يظهر واضحا في اجتماعات ونقاشات كبار المسؤولين الأمنيين في الشاباك وأمان وقيادة الجيش الإسرائيلي في الضفة مع ما يرافقه من تشاؤم وخوف
التصعيد الإسرائيلي المتواصل مؤخرا في مدن الضفة وخصوصا نابلس وجنين من المتوقع ان يؤدي الى اندلاع انتفاضة فلسطينية ثالثة أو ( نسخة قريبة منها ) عبر تنفيذ مزيد من الهجمات تبدأ من الضفة الغربية وتنتقل بسرعة الى غزة والداخل الفلسطيني وما يعزز هذا الاعتقاد وجود تحذير استراتيجي سابق قدمته شعبة الاستخبارات الاسرائيلية قبل 6 سنوات بخصوص احتمالية حدوث مثل هذا السيناريو خاصة مع ازدياد الإحباط الفلسطيني في الضفة الغربية بشكل كبير وتواصل الانتقاد الداخلي للسلطة الفلسطينية بموازاة ذلك مع ارتفاع أعداد المستوطنين في الضفة الى 450 ألف مستوطن و300 ألف آخرين يقيمون في مستوطنات القدس المحتلة
أخيرا وقبل فوات الأوان ووقوع الأس في الرأس على المجتمع الدولي وخاصة مجلس الأمن تحمل مسؤولياته وممارسة اختصاصاته من خلال العمل على تنفيذ قراراته ذات الصلة في التصدي لممارسات الاحتلال الاجرامية ومخططاته ومشاريعه الاستيطانية ومنعه من تنفيذها وإلزامه بقواعد القانون الدولي وأحكامه
التي ينبغي تطبيقها وإنفاذها بذات المعايير دون انتقائية أو تمييز وما يتبع ذلك من ضرورة توفير الحماية الدولية للشعب الفلسطيني وضمان حقه في تقرير المصير وإقامة دولته على تراب وطنه وعاصمتها القدس الشرقية وفي المحصلة النهائية العمل على إنهاء كافة اشكال الاحتلال الظالم وبخلاف ذلك سيبقى الدم يستسقي الدم والقتل والاجرام يقابله الثورة والعنف والانتقام
عمان – الاردن