مهدي مبارك عبد الله يكتب: اتفاق أوسلو 29 عام من الفشل وبيع الأوهام !
قرابة ثلاثة عقود مرت على توقيع اتفاق أوسلو المشؤوم في 13 / 9 / 1993 والنهج لم يتغير ولا زالت مقصلة الاجرام الصهيونية تزهق أرواح الأبرياء وتدمر معاني الحياة بكل باستكبار واستخفاف وسخرية ودون أي اعتبار للقوانين والمواثيق والدولية كما بقيت السياسات الإسرائيلية المتطرفة تحكم وتكبل مسيرة السلطة الفلسطينية في امكانية البناء والتنمية وتقديم الخدمات للمواطنين حيث أصبح دورها الابرز يقتصر على حماية الثكنات العسكرية والمستوطنات وخطوط التماس التي فرضها الاحتلال داخل الضفة العربية المحتلة بالإضافة الى منع المواجهات والمسيرات والاحتجاجات المناوئة لإسرائيل والالتزام الحرفي باتفاق التنسيق الأمني المقدس لديها في مطاردة واعتقال المقاومين وارشاد قوات الاحتلال لأماكنهم لألقاء القبض عليهم او تصفيتهم
اتفاق أوسلو كان المدماك الأول والخطوة العبثية الخطيرة التي قوننت ضياع ما تبقى من القضية بعد نكبتها ونكستها باعتراف فلسطيني رسمي من خلال اتفاقيات دولية ملزمة ولايزال هذا اتفاق يحتل مكانة مركزية في النقاشات العامة الفلسطينية سواء في الخلافات والتعقيدات او التوافقات والتحديات او التداعيات والنتائج والجميع يتساءل فيما إذا كان ذلك الخيار اختياري أم اجباري بالنسبة للقيادة الفلسطينية
قد يكون صحيحا ان تفاق أوسلو جاء في ظروف غير مواتية للفلسطينيين عربياً ودوليا وانه ادخل تغييرات أساسية في بنية ومسار الحركة الوطنية الفلسطينية حيث حولها من حركة تحرر وطني إلى سلطة على جزء من شعبها في جزء من أرضه والملاحظ هنا أن هذه السلطة بقيت على شعبها فقط، وليس على أرضها ومواردها أي أنها أصبحت ( سلطة صورية تحت سلطة الاحتلال الفعلية )
الأخطر في تداعيات اتفاق اوسلو هو التهميش الممنهج لدور منظمة التحرير الفلسطينية التي تعتبر أهم إنجاز الحركة الوطنية الفلسطينية كممثل شرعي للشعب الفلسطيني في كل أماكن وجوده حيث انتقل مركز العمل السياسي الفلسطيني من المنظمة كإطار أرحب إلى السلطة كنطاق اضيق حيث أضحت السلطة تمثل الفلسطينيين في الضفة وغزة فقط
وما تبع ذلك من تغييب شامل لقضية اللاجئين من المعادلات السياسية الفلسطينية وبروز سلوكيات المتاجرة والمزايدة بحقوق الشعب الفلسطيني والترويج الفاضح لثقافة الانهزام والاستسلام
من خلال الدهاء والخبث الصهيوني المعهود والدعم الأمريكي الاثم استطاع مهندسو الاتفاق بمتابعة وحرفية وخطط سيكولوجية وعبر السنوات المتتالية انهاء مفهوم الصراع العربي الإسرائيلي وفتح المجال لإقامة علاقات عربية مع إسرائيل ولم تعد ( فلسطين القضية المركزي للأمة العربية ) وأصبحت قضيتها المؤلمة البوابة أو الجسر لمد العلاقات العربية مع إسرائيل وهو ما تجسد جليا في توقيع اتفاقيات التطبيع الأخيرة وهي الخطوة الأهم للكيان الغاصب
القائمون على اعداد نصوص اتفاق أوسلو أغفلوا وتجاهلوا عن سابق قصد وتصميم كثير من الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني حتى تلك التي اعترف بها المجتمع كما انه لم يبت في مسألة الاستيطان ولم ينص على وقفه وهو ما شجع إسرائيل خلال السنوات الماضية على انشاء مزيد من المستوطنات ومضاعفة أعداد المستوطنين حيث يوجد أكثر من (700 ألف منهم في الضفة الغربية وفي القدس ) كما اجل الاتفاق البتّ في قضايا القدس واللاجئين والحدود إلى ما سمي بمفاوضات الحل النهائي التي اصبح الوصول اليها من سابع المستحيلات وبدأ تتأكل مع مرور الزمن
في الواقع العملي إسرائيل هي المحتلة والأقوى والمسيطرة ولهذا لم تنفذ الاستحقاقات المطلوبة منها ولو في حدها الأدنى وهو ما أبقي السلطة الفلسطينية محصورة ومهمشة داخل حدود ما يسمى بالحكم الذاتي الضيقة رغم وجود ( رئيس ووزراء وسفراء وعلم ونشيد ) الا ان الرئيس الفلسطيني محمود عباس نفسه يحتاج إلى تنسيق وموافقة من الإدارة الإسرائيلية للمرور عبر المعابر في الداخل أو الى الخارج عدا عن أن الجيش الإسرائيلي بشكل شبه يومي يقتحم أي مدينة فلسطينية في أي وقت يريد
بالتدقيق في بنود وحيثيات الاتفاق نجد انه في الاساس لم يستند إلى أي مرجعية دولية أو قانونية ولم يعترف بان أراضي الضفة والقطاع هي أراضيَ محتلة كما انه لم يسمي إسرائيل كدولة محتلة ولا يوجد فيه أي كلمة او عبارة تشير إلى حق الفلسطينيين في تقرير المصير أو إقامة دولة مستقلة لهم كما لم يبين نص الاتفاق بشكل واضح وقطعي ماهية التسوية أو المآل النهائي لها حيث ترك الأمر للمفاوضات بيد إسرائيل المسيطرة
ما جرى بالنسبة لإسرائيل في اتفاق اوسلو كأن مجرد إعادة انتشار لهذا نجد القوات الإسرائيلية تستبيح المدن الفلسطينية وتعتقل وتهدم البيوت وتقتل وتصادر الأراضي والممتلكات على مسمع ومرأى من سلطة رام الله دون تحريكها ساكن
معظم المحللين السياسيين والمتابعين للشأن الفلسطيني يرون ان الذهاب لأوسلو لم يكن مسار اجباري وقد اختارته القيادة الفلسطينية ممثلة بالزعيم الراحل ياسر عرفات والرئيس الفلسطيني الحالي محمود عباس وعضو اللجنتين التنفيذية للمنظمة والمركزية لحركة فتح أحمد قريع طواعية وبدون أي ضغط او اكراه من أي جهة كانت
وذلك على عكس مؤتمر مدريد للسلام هام 1991 الذي كان اضطرارياً كما حرصت القيادة الفلسطينية في هذا الجانب على ابقاء بنود هذا الاتفاق في اطاره السري الدقيق خيث عقد من خلف ظهر الشعب الفلسطيني والانتفاضة التي حشرت المشروع الصهيوني في زاوية مظلمة وكذلك لم تطرح مناقشة الافاق داخل الهيئات الفلسطينية القيادية ولا في اللجنة المركزية لحركة فتح الى ان أقره في المجلس الوطني الفلسطيني بصورة رسمية في العام 1996 بعد ثلاثة أعوام قيام السلطة
هنالك فئة قليلة من الصحفيين وأصحاب الرأي وجدوا ان اندماج القيادة الفلسطينية في مسار أوسلو كان بدافع خوفها من المحاولات الدولية لعزلها خاصة بعد تشكيل وفد فلسطيني من الضفة وغزة للمشاركة في المفاوضات باسم الفلسطينيين ضمن الفريق الأردني المفاوض في مؤتمر مدريد وفي المفاوضات ثنائية الأطراف لكن في حقيقة الامر ان هذه التخوفات لم تكن مشروعة لأن الوفد الفلسطيني ضمن الفريق الأردني كان يترأسه د. حيدر عبد الشافي الشخصية الوطنية المعروفة باستقامتها ونزاهتها كما كان أعضاء الوفد يتعمدون التصريح دائماً بأن مرجعتيهم الوحيدة هي منظمة التحرير الفلسطينية
مفاوضات اسلو المجحفة من البداية ورطت منظمة التحرير في مخاطر عديدة وفرطت بمكانتها ككيان جامع للفلسطينيين يعبر عن وحدة قضيتهم كما انها اجهضت الرواية التاريخية الجامعة للشعب الفلسطيني لتحصيل المزيد من الحقوق ويمكن القول ان الفلسطينيون خسروا المنظمة ولم يكسبوا السلطة يعدما تراجعت قضايا الأرض والاستيطان والحدود واللاجئين حيث استطاعت إسرائيل عبر الاتفاق تجزئة قضية فلسطين وتحييد حركتها الوطنية المسؤولة والفعالة وهو ما يفسر استمرار ارتهان القيادة الفلسطينية حتى الآن للاتفاق رغم كل التدهور في أحوال الشعب الفلسطيني وما تفعله إسرائيل يوميا بالفلسطينيين
بنظرة دقيقة عن قرب نلاحظ ان أوسلو كان خطوة عبثية وجهود غير موفقة ساد فيها عطب الفكرة وانحراف التفكير ولم يعد هناك بلا شك ما يمكن الاختلاف عليه حول حقيقة فشل أوسلو من وجهة نظر فلسطينية حتى ان صانع الاتفاق ومهندسه الأول الرئيس أبو مازن يقر ب1لك وليس من أسباب هذا الفشل فقط طبيعة النظام السياسي في إسرائيل الذي لم يعترف يوما بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره ولا بأي من حقوقه الوطنية الثابتة التي أكدتها قرارات الأمم المتحدة والمواثيق الدولية وهنالك مسؤولية فلسطينية مشتركة مكنت وساعدت إسرائيل على إفشال الاتفاق ونقله الى ثلاجة الموتى
هنالك تساؤلات فلسطينية عديدة حول كيفية مغادرة مسار هذا الفشل الذي بات سرطان مزمنً يقوض من إنجازات الكفاح الوطني للشعب الفلسطيني ثم إلى متى يمكن ان يصبر الشعب الفلسطيني على مصادرة السلطة لحريته يرفض الاحتلال ومحاربة قدرته على الصمود ومواصلة مسيرة كفاحه باعتبارها الركيزة الأساسية لضمان انتزاع حقوقه وأيضا إلى متى سيستمر في دفع الثمن إزاء قضيته وضرورة الاعتراف بحقه في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة على ترابه الوطني وعاصمتها القدس
مقابل كل هذه السلبيات والاخفاقات على قادة السلطة الفلسطينية ان يفهموا ان استمرار سياسات استرضاء الاحتلال لن تجعله يمن على الشعب الفلسطيني بفتات الحل الإسرائيلي وهو في كل يوم يعيد تموضع قواته ويمارس الاجرام والابادة على مذبح هذا الاتفاق الهزيل في مؤشر لقياس المدى الذي يمكن أن تذهب به السلطة في الرجوع الى المفاوضات في ظل استمرار جرائم الإبادة واستشراء الاستيطان وتوالي الاقتحامات للمدن والمخيمات والقرى الفلسطينية لو سمحتم تذكروا جيدا خطة مناحيم بيغن رئيس الوزراء الإسرائيلي الاسبق بـ ( إدامة الحكم الذاتي إلى الأبد وابقاء السيطرة الإسرائيلية على الضفة الغربية ) كما يجب الإشارة الى انه باغتيال اسحاق رابين رئيس الوزراء الاسرائيلي اغتالت المؤسسة العسكرية والأمنية الإسرائيلية عملية التسوية التي غرست براعمها في حديقة البيت الأبيض وكذلك مع اغتيال الرئيس الراحل أبو عمار تم دفن أوسلو على عجل دون تغسيل اوتكفين
من المهم جدا كذلك ان لا ننسى التذكير بموقف شمعون بيريس الرافض لإقامة دولة فلسطينية في الضفة والقطاع آنذاك والذي شكل السبب الرئيسي الثاني للفشل لان رؤيته اتجاه الدولة الفلسطينية المطلوبة لم تتجاوز يوما ( حدود قطاع غزة ) رغم ادعاءاته المستمرة بأن إقامة دولة فلسطينية هي حاجة ومصلحة استراتيجية لأمن إسرائيل الا ان الجانب الإسرائيلي في كل جولات المباحثات يركز على اعترفت المنظمة ليس فقط بإسرائيل بل بحقها بالوجود بأمن وسلام مقابل اعتراف إسرائيل الشكلي بالمنظمة وهو ما تحول لاحقا إلى إملاءات وشروط لفرض الأمر الواقع الاستيطاني وصولاً إلى اعتماده سياسة رسمية معلنة تتنافس على تحقيقها جميع الأحزاب الإسرائيلية في مؤشر خطير لتحولات المجتمع الإسرائيلي وبشكل منظم نحو اليمين واليمين المتطرف والرافض لاي عملية سلام وتسوية
الرئيس الراحل عرفات كذلك كان له نصيب وافر من مسؤولية الوصول الى حافة الانهيار والفشل حينما استبعد مخاطبة المجتمع الإسرائيلي واقتصر جهده على محاولات استرضاء المؤسسة السياسية والأمنية الإسرائيلية لكسب ثقتها وتأكيده جديته للمضي بعملية السلام دون اكتراث بدور المجتمع الإسرائيلي ذاته الذي يشكل أداة الضغط الفعلية على قرارات القادة الاسرائيليين ولا يفوتنا الإشارة الى ان الانقسام الفلسطيني بين غزة والضفة والذي اعتبره شمعون بيريس ( الإنجاز الاستراتيجي التاريخي ) والأكثر أهمية بعد إنشاء دولة إسرائيل كان معول هدم إضافي للوحدة الوطنية الرافد الأساسي للصمود والمقاومة
ايهود باراك رئيس الحكومة الإسرائيلية الاسبق بدوره نجح ايضا في الإطاحة الكلية باتفاق أوسلو بعد تمكنه من إفشال مفاوضات كامب ديڤيد واستدراج الفلسطينيون لمربع العنف المتبادل من خلال السماح لشارون بزيارة المسجد الأقصى وإعادة احتلال مدن الضفة الغربية بهدف تدمير مؤسسات السلطة الوطنية ومنعها من ممارسة الحكم كما جعل ما يسمى بالمرحلة الانتقالية مفتوحة دون تحديد ناهيك قناعة الشعب الفلسطيني المطلقة بأنه لا توجد أية فرصة في المدى المنظور لتحقيق تسوية سياسية قائمة على أساس حل الدولتين لأن النظام السياسي في إسرائيل غير جاهز لمثل هذه التسوية وهو ما مكن التيارات والاتجاهات الإسرائيلية المتشددة من رفض أي تسوية سياسية والانقضاض عليها وتدمير ما أنجز الفلسطينيون خلالها
امام كل ذلك يتساءل العديد من أبناء الشعب الفلسطيني كيف لنا أن نخرج من هذا المنزلق والطريق الخطير الذي يأخذنا جميعاً بما في ذلك قيادتنا نحو الهاوية الحتمية وكيف لنا عدم تمكين حكومة الاحتلال من الهروب من هذا الاستحقاق التاريخي وتحميل الفلسطينيين المسؤولية عن فشله من خلال استثمار الاحتلال لحالة الانقسام وتداعياته المستمرة والذي يعد ضربة قاصمة لوحدة النضال والتمثيل الوطني الموحد وكذلك للمشروع الوطني التحرري وللحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة بأجنحتها المختلفة كما عمل الاحتلال على فرض الحل الإسرائيلي وزرع مشاعر الإحباط الشعبي وكي وعي الفلسطينيين إزاء حقوقهم الوطنية كما عرفتها الشرعية الدولية
فشل مسار التسوية بهذا الشكل المزري وضع إسرائيل أيضاً في مأزق ربما أكثر تعقيداً من الأزمة التي تعاني منها السلطة الفلسطينية لان القضاء على ما يسمي بتسوية حل الدولتين ادخل إسرائيل بكامل ثقلها ومأزقها في براثن نظام الأبارتايد العنصري وما يترتب عليه من صراع دموي طويل الأمد لن ينجح الصهاينة من خلاله في ترحيل الفلسطينيين عن ارضهم مهما كان الثمن
بعد كل هذه الخيبات والحصاد المر يجب على السلطة الفلسطينية القيام مراجعة وطنية شاملة لا تقتصر على وحدة القوى السياسية على أهمية ذلك بل لا بد من السعي الصادق لبلورة مشروع وطني جامع لكل الفلسطينيين دون إسقاط أو استثناء أحد لغايات إعادة بناء الهوية الوطنية الموحدة التي سعت إسرائيل من خلال إدارتها لمضمون أوسلو الى تمزيقها ووأدها
ولا بد أيضا من إعادة بناء المؤسسات الوطنية في إطار منظمة التحرير الفلسطينية والتأكيد على أهمية وأولوية الكفاح الوطني المشترك لإنهاء الاحتلال ومواجهة الطابع العنصري للمشروع الاحلالي الصهيوني واعتماد استراتيجية كفاحية تكون ركيزتها الاعداد والتأهيل الميداني الذي تقوده حكومة وحدة وطنية تعمل على تعزيز روح الصمود والمقاومة إضافة الى ضرورة وقف استمرار اللهاث العقيم خلف المفاوضات الوهمية التي لم تفضي سوى الى مزيد من التعنت والغطرسة الصهيونية والتغطية على المشروع الاستيطاني الاستعماري وأهدافه العنصرية البغيضة
أخيرا ان اهم ما يحتاجه الفلسطينيون في هذه المرحلة هو توحيد ساحات وجبها القتال والنضال لإنهاء الاحتلال وانتزاع الحقوق وفي مقدمتها حقي تقرير المصير والعودة وما يتطلب ذلك أيضاً من الاتفاق على نبذ الهيمنة والإقصاء والتفرد بالسلطة واعتماد استراتيجية صمود عنوانها المواطن المقاوم ومعالجة كل آثار ومخلفات الانقسام ومحاربة الفساد والولاءات الجهوية وهدر المال العام واجراء الانتخابات النيابية بنزاهة وشفافية في أسرع وقت واستعادة أدوات المساءلة البرلمانية والشعبية لتوفير عوامل الثقة والمصداقية في نفوس المواطنين للوقوف الى جانب السلطة ودعمها في مواجهة الاحتلال وادواته الظالمة