مهدي مبارك عبد الله. يكتب : ليز تراس على خطى ترامب .. البداية الأسوأ
بعد قطيعة دامت سبعة عقود في توجهات السياسة الأميركية نحو القدس أعلن الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب في يوم 6 كانون الأول عام 2017 اعتراف إدارته بالقدس عاصمةً لإسرائيل والذي مثل خرقاً فاضحاً لميثاق الأمم المتحدة وقرارات الشرعية الدولية ففي خطاب تاريخي بالبيت الأبيض قال ترامب لقد ( وفيت بالوعد الذي قطعته بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل وأن لإسرائيل الحق في تحديد عاصمتها ) وبهذا الاعتراف امريكا فقدت دورها كوسيط في احلال السلام بالشرق الاوسط، وفي عام 2018 وجه الرئيس ترامب وزارة الخارجية لبدء التحضيرات لنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس وقد انتقدت رئيسة الوزراء البريطانية في حينها تيريزا ماي هذه الخطوة ووصفتها بالمتهور وغير الضرورية
رئيسة الوزراء البريطانية الجديدة ليز تراس التي حلت مكان بوريس جونسون كرئيس لوزراء المملكة المتحدة في هذا الشهر بعد تعديل وزاري في حزب المحافظين التقت يوم الأربعاء الماضي مع نظيرها الإسرائيلي يائير لابيد في نيويورك على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة وبعد سلام حميمي كان اشبه بالاحتضان أبلغته أنها تدرس قرار نقل سفارة بلادها من تل أبيب إلى القدس وقد أكد لابيد الخبر ونشر تغريدة له على تويتر شكر فيها موقف تراس بقوله ( أشكر نظيرتي البريطانية ) وان هذا التحول يأتي في اطار الانحياز البريطاني المتجدد لسياسات الاحتلال العنصرية والإجرامية ضد الشعب الفلسطيني
تصريح تراس زعيمة حزب المحافظين لم يكن مفاجئ لنا او للمتابعين لنهجها ومواقعها السابقة اتجاه تل ابيب والقضايا العربية فقد أعلنت اثناء حملتها الانتخابات الأخيرة التي قادتها الى رئاسة الحكومة البريطانية انها إذا أصبحت رئيسة للوزراء ستراجع قرار المملكة المتحدة بإبقاء سفارتها في تل أبيب
عندما كانت تراس وزيرة للخارجية أعربت مرات عديدة عن تعهدها بدراسة مسألة نقل سفارة بلادها في إسرائيل في حال فوزها في السباق على رئاسة الحزب والحكومة وفي رسالة سابقة بعثت بها إلى منظمة أصدقاء إسرائيل المحافظين ( اللوبي الصهيوني ) قالت فيها ( إنني أتفهم أهمية وحساسية موقع السفارة البريطانية في إسرائيل ولهذا الغرض أجريت العديد من المحادثات مع صديقي العزيز رئيس الوزراء يائير لبيد حول هذا الموضوع وسأفكر في قرار لضمان أن نبقى نعمل معا على أقوى الأسس والشراكات ) كما قالت حين كانت مرشحة لقيادة حزب المحافظين إنها ستضغط من أجل إلغاء البند 7 من جدول أعمال مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة باعتباره بند يستهدف إسرائيل بشكل دائم
وقد أعلنت عن دعمها الكامل لإسرائيل خلال عملية ( مطلع الفجر ) التي استمرت 66 ساعة بين إسرائيل وحركة الجهاد الاسلامي حين استهدف الجيش الاسرائيلي القيادة العليا للجهاد افي قطاع غزة إضافة الى مواقعها ومصالحها وخلاياها وقد كتبت تراس حينها على تويتر ( تقف المملكة المتحدة إلى جانب إسرائيل وحقها في الدفاع عن النفس )
كما تعهدت مرارا بضمان عدم انخراط المجالس المحلية البريطانية في سياسات المقاطعة ضد إسرائيل والتي وصفتها بأنها تمييزية وتتعارض مع المواقف الحكومية البريطانية كما أصدرت تعليماتها مؤخرا بضرورة إبرام اتفاقية للتجارة الحرة بين بتل ابيب ولندن في أسرع وقت ممكن ورفع كُل القُيود عن البضائع والمؤسسات الإسرائيلية ومواصلة تعزيز التعاون والشراكة مع كيان الاحتِلال الإسرائيلي
اللافت هنا ان موقف تراس تزامن مع كلمتها التي ألقتها أمام الجمعيّة العامة للأمم المتحدة والتي اكدت فيها على دعم حكومتها المطلق لأوكرانيا في مواجهة الاحتِلال الروسي لتمكينها من تحرير أراضيها الأمر الذي يعكس الازدواجيّة في ابشع صورها وأسوأ َمعانيها فبعد 74 عام من النكبة يتواصل الدعم للاحتِلال وجرائمه ومجازره المستمرّة منذ عقود بحقّ الفِلسطينيين
المملكة المتحدة في عام 2017 اعلنت عدم دعمها لبيان دولي يتعلق بحل الدولتين مما شكل في حينه لحظة فاصلة في سياسة بريطانية تجاه إسرائيل حيث فهم على انه جزء من التحول الى اليمين بعد تولي تيريزا ماي السلطة حيث صوتت المملكة المتحدة ً مع دول أوروبية أخرى على دعم السياسات والبيانات التي كانت أكثر انتقادًا لإسرائيل وممارساتها العنصرية
بتتبع دقيق لأحداث التاريخ نحد ان جميع النكبات التي حلت بالشعب الفِلسطيني وكافة الحروب التي اندلعت في المِنطقة ارتكزت على نتائج وعد بلفور البريطاني المشؤوم بالإضافة الى اتفاقات سايكس بيكو وسان ريمو حين جرى خِداع ممنهج للأمتين العربية والإسلامية بعد تخلّي بريطانيّة وفرنسا عن جميع وعودهما بمنح الفلسطينيين الاستِقلال ومن ثم إقامة الدولة اليهودية وتشريد الفِلسطينيين من ارضهم ووطنهم في واحدة من أكثر اشكال الغدر والخيانة في التّاريخ الحديث
قرار رئيسة الحكومة البريطانية المتسرع أثار موجة انتقادات واسعة في العالمين العربي والإسلامي وكذلك في الصحافة البريطانية لا نه لا يخدم مسيرة السلام في المِنطقة بل يدعم الإرهاب والحرب ويقدم فرصة قيمة لأدوات العنف والتطرف سيما وان نقل السفارة إلى القدس لن يحسن وجه الاحتِلال ولن يضفي الشرعية على احتِلاله للقدس وجعلها عاصمةً أبديةً له بل سيصعد من زَخَمِ النضال والمقاومة والتمسك بالمدينة المُقدسة وأقصاها وكنائسها لأن ذلك يعني اعتراف كامل بالسيادة الإسرائيلية عليها الأمر الذي ينتزع حق الفلسطينيين في المدينة
قرار رئيسة الحكومة البريطانية لاقى معارضة وانتقادات كانت متوقعة اصلا من دبلوماسيين بريطانيين سابقين حيث كتب 10 منهم إلى صحيفة التايمز اللندنية مطالبين تأجيل قرار نقل سفارة بلادهم الى حين إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة
الواضح لنا في هذه السياق أن السيدة تراس تتصرف بعدم نضج وتنتهج أسلوب المغامرة ويبدوا انها لم تستوعب متغيرات الواقع ولم تأخذ العبرة والعضة من دروس التّاريخ الماضية ولا زالت لم تدرك التبعات السلبية الجسيمة لقرارها وهي تنتهج سياسات تلحِق الضرر الفادح ببلدها ومصالح شعبها على المديين القريب والبعيد حيث كان أولا بها أن تسارع الى تقديم اعتذار باسم حكومتها للشعب الفِلسطيني وللأُمتين العربية والإسلامية عن دورها بلادها امبراطورية الشر في ارتكاب أكبر الجرائم في التّاريخ الحديث بإقامة دولة لليهود على أنقاضِ شعب آخَر شرد من بلاده بقوة أسلحة العصابات الارهابية والأموال والدعم السياسي والدبلوماسي البريطاني عندما كان الشعب الفلسطيني يرزح تحت نير الانتداب البريطاني سيء الذكر
العديد من المسؤولون الإسرائيليون قللوا من إمكانية تحقق كلام رئيسة الوزراء البريطانية ليز تراس في نقل السفارة البريطانية من تل أبيب إلى القدس كما شككوا في إمكانية تجاح هذه الخطوة واعتبروها ضئيلة ومن المتوقع ان تؤدي الخشية على المصالح البريطانية مع العالمين الإسلامي والعربي إلى صدور فيتو ضد القرار في المملكة المتحدة ووقف تنفيذه
من المشين جدا أن نري دول تشارك الولايات المتحدة في قرارها المجحف وهي تبدي توجهاتها الجادة لنقل سفارتها من تل ابيب إلى القدس بعدما اتخذت أمريكا مثالا وقدوة تسير على خطاها كرومانيا أول دولة في الاتحاد الأوروبي التي رفضت الخميس الماضي التصويت على مشروع قرار في الجمعية العامة للأمم المتحدة برفض قرار الولايات المتحدة الاعتراف بالقدس عاصمة إسرائيل بعدما هددت واشنطن بقطع المساعدات المالية عن كل الدول التي قامت بدعمه بالإضافة الى الهندوراس وغواتيمالا وكوسوفو والمجر وجمهورية التشيك وصربيا وأستراليا خاصة بعد تولي موريس منصب رئاسة الوزراء حيث أحدث تغييرا في سياسات في بلاده اتجاه إسرائيل وأصبح يميل لدعمها والدفاع عنها بشكل علني
القرار الأممي المشار اليه اعلاه والذي حظي بدعم 128 دولة عضو في الجمعية العامة للأمم المتحدة من أصل الدول الـ 193الأعضاء ينص على أن أي إجراءات تهدف إلى تغيير طابع القدس تعتبر لاغية وباطلة كما يدعو القرار جميع الدول إلى الامتناع عن إنشاء بعثات دبلوماسية في المدينة والامتثال لقرارات مجلس الأمن الدولي المتعلقة بالقدس وتكثيف الجهود الدولية لتحقيق سلام عادل وشامل ودائم في منطقة الشرق الأوسط
ربما تكون حالة الضعف والتشتت العربي والإسلامي هي ما شجع بعض الدول على الانسياق وراء القرار الأمريكي بالإعلان عن نقل سفاراتها إلى القدس وهو ما يمثل تحديا صارخا لمشاعر مليار ونصف مليار مسلم عبر العالم ممن يرون ان انتهاك مقدساتهم ومقدسات إخوتهم المسيحيين والعبث بتاريخها وتهويد معالمها ومحاصرة أهلها وسط عجز وتخاذل دولي غير مسبوق والكيل بمكيالين في القرارات الدولية وقوانينها
الرغبة البريطانية حتى لو تم تطبيقها على ارض الواقع ستبقى بمثابة المنعدمة لان أي إجراء أحادي يعتبر باطل ولا أثر او اعتباره قانوني له وهو مدان وترفضه معظم دول العالم مع التأكيد على أن شرق القدس هي عاصمة الدولة الفلسطينية ومركز المقدسات الإسلامية والمسيحية ومفتاح السلام للوصول إلى حل عادل للصراع وتلبية الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني
امام تصاعد هذا الواقع المؤلم لابد من استمرار التمسك بعروبة القدس وهويتها الفلسطينية والمضي قدما في التوعية بقضية القدس وتاريخها العربي التليد ودعم نضال الشعب الفلسطيني الباسل من أجل تحرره واستعادة أرضه ومقدساته على قاعدة واضحة مفادها أن عروبة القدس هي قضية العرب والمسلمين الأولى التي لن تموت أبدًا وأن تمسك الشعب الفلسطيني القوي بأرضه ورفضه الاستسلام وإبداعه في المقاومة أعاد للقضية الفلسطينية حيويّتها ومكانتها رغم ان أمريكا وبريطانية وغيرهما من الدول لا زالت تنطلق من مفهوم الظلم والاستبداد والعدوان وتعتبر قتل الفلسطينيين حق والتوطين فعل مشروع
تراس من مواليد 26 يوليو 1975 في أكسفورد وهي أم لطفلين وعضو سابق في البرلمان منذ عام 2010 شغلت عدة مناصب وزارية مختلفة كان اخرها وزيرة للخارجية وهي من المعارضين لما تسميه ( الاستفراد بإسرائيل في الأمم المتحدة ) وقد كانت وما زالت من أكثر السياسيين البريطانيين ولاء للدولة العبرية ودعما لاحتِلالها وجرائمها في فِلسطين المحتلّة
إضافة الى انحيازها لمنطق الغطرسة والقوة على حساب قيم العدالة والحق وهو ما يجعل عالمنا المعاصر أبعد ما يكون عن الاستقرار والسلام في مسارات تسوية عبثية تهدف الى انتزاع جزءاً من فلسطين للصهاينة ولهذا على رئيسة وزراء بريطانيا التراجع سريعا عن قرار بنقل سفارة بلادها الى القدس لان ذلك سيزيد من حالة عدم الاستقرار وغياب الثقة واثارة الأزمات والاضطرابات والمساس بالوضع القانوني والتاريخي المتعارف عليه للقدس وما ينطوي عليه من خطر الزج بالقضية الفلسطينية في متاهات الصراعات الدينية على اعتبار أن موضوع المدينة المقدسة يقع في صلب قضايا الوضع النهائي
[email protected]