مهدي مبارك عبد الله يكتب : السلطة الفلسطينية بين الحل او تغيير الدور !
الوضع الفلسطيني الراهن غاية في الصعوبة ومليء بالتحديات سواء ما يتعلق بالواقع الفلسطيني الداخلي الذي يشهد انقسام حاد بين أكبر قوتين فلسطينيتين وهما فتح وحماس أو ما يتصل بالمحيط الخارجي من حيث ارتباطه بحاضنته العربية التي تشهد تصدعا عميق يجسد انكفائها داخليا وتشرذمها خارجيا
المشروع الصهيوني الاحتلالي تطور وتضخم منذ نشأته وفق حسابات وخطط استراتيجية دقيقة جدا جعلته أكثر قوة وتماسك حيث يمتلك الان كل الامتيازات التي تعزز ثباته فوق الأرض وتحتها حيث لم تعد إسرائيل معنية بالتعاطي مع الطرف الفلسطيني كمرجع أساسي بالإضافة إلى عدم تحملها تكاليف الاحتلال كما كان الوضع عليه في الستينات والسبعينات واليوم تمارس بكل حرية حصار غزة وافتحام مدن الضفة و بناء المستوطنات وتوسيعها بغطاء من الإدارة الأمريكية السابقة والحالية فضلا عن بدء تشكل غطاء تحالف عربي جديد من الدول التي تقييم علاقات تطبيع مع إسرائيل يتستر عل احتلالها وجرائمها
في المقابل هنالك الفلسطينيون الصامدون على أرضهم رغم معاناتهم القاسية نتيجة التضيق عليهم وتهجيرهم وممارسة التميز العنصري ضدهم وقهرهم في وقت باتت إسرائيل فيه على غير احتكاك دائم بالشعب الفلسطيني حيث كفتها ( الشرطة الفلسطينية) عناء ذلك ووقف الاسرائيليون يراقبون الفلسطينيين من الخارج ويحاصرونهم ويضيقوا عليهم لتهجيرهم من ارضهم سيما في القدس كما ان كيان الاحتلال لم يعد مضطر للتفاوض مع الفلسطينيين أو تقديم أي تنازلات من شأنها الوصول إلى اتفاقية سلام وعليه أصبحت غير مكترثة بالمفاوض الفلسطيني في أي مرحلة
قيادات الثورة الفلسطينية سارت بقدميها بإصرار وعناد وقطعت المسافةَ ما بين زمان لا صلح ولا تفاوض ولا اعتراف إلى اوان ما سمي زورا وبهتان بـ ( سلام الشجعان ) وجرى التطبيع مع المحتل والاعتراف به وبما احتله وهو أربعة أخماس مساحة فلسطين دون ثمن ملموس وحتى دون الاحتفاظ بأدوات المقاومة والنضال ومع طول التسويف والمماطلة لم يتحقق التحرير المنشود ولم يحصلوا على الدولة المستقلة ذات السيادة ولم يعد اللاجئون ولم تصبح القدس عاصمة حرة للفلسطينيين ولم تعترف إسرائيل بأبسط حقوقهم المشروعة
السلطة جاءت قبل الدولة كأحد افرازات اتفاقية أوسلو عام 1993 وهي سلطة مؤقتة وفقا للاتفاق ومرتبطة بمجموعة من الشروط على رأسها محاربة الارهاب ومن بداياتها تولد لديها خوف شديد من العقوبات التي قد تفرض عليها بسبب تصرفها ما جعلها عرضة للإهانة والتحجيم والانهيار في أي لحظة وهو ما دفعها لتقديم ( الحسابات السياسية على الثوابت الوطنية ) والرضوخ لبعض الالتزامات التي لا تصب في صالح الشعب الفلسطيني منها ضمان أمن إسرائيل وتقيد المقاومة بكافة صورها وأشكالها بمعنى دقيق ( اريد للسلطة أن تمارس دور الأنظمة المحلية في المنطقة ) وهو ما أفقدتها الزخم الشعبي المطلوب لتكون مشروع تحرر وطني يلتف حولة الفلسطينيون
بعد خمسة سنوات من أوسلو وصلت السلطة الفلسطينية إلى أفق مسدود ولاتزال حتى الآن تراوح مكانها بعدما حولتها إسرائيل وفقا لرؤيتها لمفهوم السلام مع الفلسطينيين إلى ما يشبه سلطة محلية ( بلديات ) للأشراف على الشعب الفلسطيني ضمن نظام ( أبرتهايد ) مغلق حيث ظهرت السلطة في أحسن صورها بتقدم خدمات بلدية وجمع الرواتب وإدارة المؤسسات الصحية والاجتماعية والتعليمية لا نستطيع السيطرة على أيّ معبر أو على بوصة واحدة من الأرض لتقيم عليها ضاحية أو مشروع تنمية إلا بموافقة الاحتلال المتَحَكِّم الأقوى في الحالة الفلسطينية بكل تفاصيلها
كما اصبح واضحا داخل مؤسسات واروقة السلطة اتساع الاحتكار وانتشار الفساد والتكلس والاستزلام والشعبوية وتعاظم الاستبداد واستشراء الفقر وارتفاع منسوب البطالة وتراجع الخدمات من كهرباء و ماء و صحة وتهالك البنى التحتية و تفشي ظاهرة العنف الأسري والجريمة التي لم تكن معروفة بهذا الحجم على زمن الاحتلال وقد ضاقت هوامش الحرية وانفرطت النخب والقوى الفلسطينية التقليدية وانكفأ بعضها فيما ذهب البعض منها إلى خيارات مضادّة ومناكفة وغاب التخطيط الشامل في مواجهة الترهل والعجز واختلت المعايير والأسس وتقوضت الاساسات والدعامات
الحديث عن مستقبل السلطة الفلسطينية من حيث حلها أو انهيارها أو استبدال الاحتلال لها بخيارات أخرى أو التغيير في وظيفتها على أساس اتفاق وطني شامل هو في الواقع حديث قديم ومتجدد ولم تكن بدايته كما يعتقد بعد إعلان رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو عن مشروعه لضم أجزاء من الضفة الغربية وتبني الإدارة الأمريكية في حينه للرواية الصهيونية
ثمة ثلاثة سيناريوهات محتملة لمستقبل السلطة أولاها حل السلطة وهذا الخيار لا زال غير مطروح بشكل جدي لدى قيادة السلطة مع وجود مخاوف من عدم قدرة الجانب الفلسطيني على تحمل تداعياته في ظل غياب البديل والسيناريو الثاني هو تغيير وظيفة السلطة وهو المطروح بقوة لدى العديد من المثقفين والسياسيين والنخب بحيث تقتصر مهمة السلطة على الجانب الإداري بينما يتم تحويل الجانب السياسي إلى منظمة التحرير بعد استعادة دورها وقوتها وإعادة هيكلتها أما السيناريو الثالث يقوم على الانتظار والاستمرار في المسار نفسه وهو ما يظهر أن قيادة السلطة راغبة على السير فيه على الأقل لحين انتظار تبدل المواقف الأمريكية والإسرائيلية وهو اشبه بـ ( حلم ابليس في الجنة )
بعد الفشل الذريع الذي أصاب كل تلك الرهانات ودخول مسارات التسوية في انغلاق مستحكم الأفق تزامن مع تصاعد العمليات الفدائية ضد الاحتلال وتفاقم حالة الغضب على السلطة بدأت التهديد العلنية تتكرر من رأس السلطة الفلسطينية ومؤسسات منظمة التحرير وحركة فتح بوجوب حلها والتحذير من احتمال انهيارها ولم تكن تلك التهديدات منفصلة عن التهديد بخيارات عملية دون حل السلطة كوقف التنسيق الأمني أو التنصل من الاتفاقات الموقعة مع الاحتلال التي أعلنها الرئيس عباس في أيار 2020 لكنها جميعها ظلت مجرد مناورات خطابية لم يكن لها أي مصداقية على ارض الواقع وفي سياقات النظر في مستقبل السلطة
ربما يكون الخيار الأفضل في هذا الشأن أن لا يتجشم الفلسطينيون عناء حل السلطة الفلسطينية وان كل ما عليهم القيام به هو تغير دور السلطة وبالتالي ستقوم إسرائيل نفسها بحلها حتى لا يقال بأن اسرائيل منحة الفلسطينيين السلطة وهم من تنازلوا عنها وليترك الامر للمحتل يسير أمور الشعب الفلسطيني الحياتية اليومية كأي دولة احتلال خذ مثلا الاحتلال الفرنسي في الجزائر هل سمعتم بوجود سلطة جزائرية وطنية تحت السيادة الفرنسية الشعب الفلسطيني وبهذا يبدو الأمر كان السلطة تريد ( تحرير فلسطين من الشعب الفلسطيني )
في الواقع وتحت أي ظروف لن يسمح الاحتلال للسلطة الفلسطينية بتغيير وظيفتها مهما حاولت وأن جميع الخطوات التي اتخذتها السلطة سابقا كرد فعل على مؤامرة صفقة القرن ومشروع الضم لم يكن لها أي أثر في الميدان حيث لايزال الحراك الفلسطيني مكبل ولا تزال المواجهات العنيفة والملاحقات الأمنية الشرسة مفروضة على حركة النشطاء وعلى العمل الفلسطيني المقاوم مثل المظاهرات وغير ذلك من أعمال المقاومة الشعبية في كافة مناطق السلطة
هنالك من يقول ان مطالبة البعض بحل السلطة دون تهيئة البديل الوطني قد يؤدي لحالة فوضى لن يستفيد منها إلا العدو واليوم وبعد مرور سنوات عجاف لم يحدث فيها انتقال السلطة نحو الدولة ولا عودة لحالة التحرر الوطني ولا إعادة بناء واستنهاض لمنظمة التحرير ولا انهاء للانقسام بل مع توالي السنين زادت السلطة ضعف وتردي وما زال البعض يطالب بإلغائها باعتبارها سلطة حكم ذاتي مقيدة باشتراطات والتزامات اتفاق أوسلو وليست معطى نهائي أو مرتكز من الثوابت الوطنية بل هي حالة مؤقتة يمكن تجاوزها إن توفرت الإرادة الوطنية بتغيير وظيفتها أو بالانتقال إلى الدولة أو بالرجوع إلى حالة التحرر الوطني
رغم أن هذا الأمر لن يكون سهلا لعدة أسباب أولها غياب من يملك القدرة على تغيير وظيفة السلطة فضلا عن ان حلها سيكون في ضوء تعدد مستويات القيادة في السلطة و ارتباط مصالح عدد لا يستهان به من الفلسطينيين بها
قد يكون صحيحا لدرجة ما ان تداعيات إسقاط السلطة الوطنية الفلسطينية أو حلها لن تقتصر على انهيار الحكومة ومؤسساتها وما يترتب على ذلك من توقف في دفع الرواتب وتقديم الخدمات الأساسية لغالبية المواطنين بل قد تؤدي لدخول النظام السياسي في متاهات وحالة فوضى لن يستفيد منها إلا الكيان الصهيوني وأصحاب الأجندة الخاصة وغير الوطنية
اتباع نهج وعقيدة دايتون توهموا أن التنسيق الأمني وقمع المناضلين ومعارضي السلطة سيحقق الأمن والأمان ويقرِب من قيام الدولة الفلسطينية المنشودة ولكنهم اكتشفوا أن ما يقومون به يخدم دولة الاحتلال أكثر مما يخدم الشعب الفلسطيني حيث كانت إسرائيل تقوم بتقليص صلاحيات السلطة ومناطق نفوذها وتحاول اضعافها بشتى الوسائل ولا تثق بها بالرغم من كل ما قدمته قيادة السلطة من ليونة سياسية وتنسيق أمني ناهيك عن تصعيدها ومضاعفة إجراءاتها في الإحلال والقمع وأسرلة كل فلسطين واستيطانها ورفض أيّ صيغة للتفاوض وإعلاء جدار الانغلاق أمام أي امل بتسوية مع الفلسطينيين
القيادة الفلسطينية عندما وقعت اتفاقية أوسلو لم تعد الشعب الفلسطيني بقيام سلطة حكم ذاتي محدود او سلطة بلا سلطة بل وعدته بدولة مستقلة ذات سيادة وعاصمتها القدس الشرقية وفقاً لنص وثيقة الاستقلال عام 1988 الأمر الذي يجعل من دعوة الشعب الفلسطيني أو البعض منه لسقوط النظام المتمثل في السلطة أقل كلفة للشعب الفلسطيني من بقاء الوضع القائم على حاله لا سيما وأن تل ابيب وواشنطن وباقي أطراف المجتمع الدولي هي من يتحملون مسؤولية فشل مسيرة التسوية في جميع مراحلها
لازالت السلطة في واد والشعب الفلسطيني في واد آخر ولأمل مفقود بالمطلق ولا يوجد أي حل في المنظور القريب طالما أن إسرائيل تقول أن القدس عاصمتها الأبدية وتعيد بناء الهيكل وتدمر المسجد الأقصى وتصادر نصفه وتأخذ الأراضي من الشعب الفلسطيني في كل يوم سواء كانت أملاك خاصة أو عامة مع كل هذه الارتدادات السلبية لابد من أن توقن السلطة الفلسطينية بأن المفاوضات العبثية مع الجانب الإسرائيلي وحدها لن تصل إلى أي شيء دون أن تتزامن مع الفعل المقاوم المنظم على الأرض ( الحرب أساس السلام )
امام كل هذا التعنت والاستهتار الإسرائيلي لابد أيضا لقيادة السلطة الفلسطينية من التفكير بمحاكاة تجربة الرئيس الراحل ياسر عرفات في عام 2000 بعد أن وصل إلى قناعة تامة بأن المفاوضات لن تؤدي إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس الشرقية فعمد إلى اطلاق المقاومة المسلحة مشتبكا مع الجيش الإسرائيلي في حرب حقيقية رغم انها كانت غير متكافئة لكنها خلطت الأوراق وغيرت بعض الموازين السياسية والعسكرية في حينها
أيضا لماذا لا يتم بناء مؤسسة رسمية تكون ناطقة باسم القضية الفلسطينية مستوحاة من التجربة النضالية في جنوب افريقيا حيث تم بناء مؤسسة ( الحركة الجنوب افريقية ) التي قادها الزعيم الراحل مانديلا من سجنه بالاستناد الى ان منظمة التحرير الفلسطينية في الوقت الراهن أصبحت مظلة معنوية فقدت الكثير من البريق والدور وتحولت الى هيكل مصغر عما كانت عليه في أواخر الستينات وطوال السبعينات والثمانينات فضلا عن ان إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية وفق الظروف الحالية سيؤدي حكما الى اعادة انتاج المنظمة نفسها من جديد وبنفس الفكر والوجوه والعقلية التي أوصلت القضية الفلسطينية إلى ما هي علية من ضياع وهزيمة
من الضروري جدا الاستفادة مما آلت إليه الانتفاضتين الأولى 1987 والثانية 2000 وكيف أدى غياب الرؤية والاستراتيجية الوطنية الموحدة إلى عدم تحقيق إنجازات سياسية عملية في المقابل مطلوب من القيادة الفلسطينية العمل الجاد للانتقال من السلطة إلى الدولة في سياق توافق وطني أو من خلال استفتاء شعبي والعودة للميثاق الوطني والاحتكام للشارع لبناء مؤسسات مجتمع مدني قادرة على قراءة مسوغات الوضع والمشهد ومراقبة أجهزة الدولة والأفراد ومحاربة والمحسوبية والتكسب والثراء غير المشروع مع إدراكنا لحجم التحديات والصعوبات القانونية والعملية في كل ذلك الا انها ليست بالمستحيلة
تغيير وظيفة السلطة الفلسطينية يعني قصر مهمتها على الجانب الإداري وتحويل الجانب السياسي لمنظمة التحرير وهو الأمر الذي يتطلب بالضرورة وحدة وطنية لعدة اعتبارات أولها كي يتحمل المجموع الوطني مسؤولية خطّة تحويل الوظيفة والنهوض بما يترتب على ذلك من احتمالات المواجهة أو أزمات إدارية واقتصادية. والثاني كي تمثل منظمة التحرير الفلسطينيين
الحالة الفلسطينية الراهنة غامضة وملتبسة وهي بحاجة لوضع استراتيجية عملية وتشكيل جبهة وطنية عريضة تضم كل فصائل الثورة الفلسطينية كحركة وطنية وكحركة تحرر وطني تقود الجماهير والمشروع الوطني إلى بر الأمان والتحرير ومن المطلوب ايضا وضع برنامج وطني شامل يقوم على المكاشفة والوحدة الوطنية والعمل المشترك في بناء حوار وطني جاد وحقيقي يكون مدخلاً لوضع البرامج الوطنية لأعاده مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية وانتخاب قيادة شابة قوية وقادرة على مواجهة العالم بالرؤية الفلسطينية التاريخية وتحقيق الحد الأدنى من الطموحات الوطنية فمن غير المجدي البقاء في المنطقة الرمادية
المشكلة الحقيقية هي في السلطة الفلسطينية العتيدة التي باتت أداة في خدمة المحتل الصهيوني وقطعان مستوطنيه بتوفير الأمن والسلامة لهم وقمع أى محاولة مناهضة للاحتلال وسياساته التصفوية والتهويدية للقضية الفلسطينية لهذا يرى كثير من الفلسطينيين انه لا ضرورة لوجود تلك السلطة التي دمرت الحياة الفلسطينية اجتماعيا واقتصاديا ولا أمل فيها بعد أن تم تجربتها على مدى أكثر من 25 عام وأثبتت عدم جدواها وأهليتها وفشلها لقيادة هذا الشعب و شروعه الوطني التحرري ومن الواجب تغييرها
ختاما يمكن القول بصراحة ووضوح ان الأمر خرج عن كل المعطيات وبالفعل تجاوز مسألة الخطر ودخل مرحلة التصفيّة لشعبَ وقضيّة وانني أعتقد جازماً أنه صار لزاماً تجديد النهج و الخطاب ولغة وقواعد الاشتباك خاصة وان الشعب الفلسطيني غير عاجز عن إيجاد البدائل والحلول وقد أعطى فرص كثيرة وقد اصبح همه الأول وضع حد لهذا الحال المرفوض والذي لن يطول فقديما قالت العرب أخر الدواء هو الكي ونحن نقول وإن لزم الأمر معه البَتر وكلامنا موجه للجميع ولكل مسؤول عن هذا التشرذم الذي لا يخدم إلا المشروع الصهيوني وعملائه
[email protected]