دراسة نقدية لرواية” الآن في العراء” للروائي الأردني حسام الرشيد

دراسة نقدية الأديبة د. أمل علمي بورشك عضو اتحاد الكتاب

أمسكت الكتاب الورقي للرواية، والمتميز بصفحة غلافه المصقولة و المحتوية على شكل فزاعة، مكونة من غصن رفيع مثبت عموديا على أرض يابسة الأعشاب، جزء منه مطلي باللون الأبيض، ويحمل بين فرعيه غصنًا آخر أسود، يشير إلى الضعف و الاستكانة وأنه آيل للسقوط، في نهايته أكثر من قبعة بتدرجات للون البني الغامق والفاتح مع إطار مميز بالرقي، “ترمز للفكر البعيد عن لون المعطف الذي لامسته أوراق الشجر المتطايرة، و مؤكدة على عدم التناسق مع المعطف الأسود المعلق من كتفيه والذي يظهر تلاعب الريح به، فوجهت أحد كميه نحو اليسار” و في الخلف أفق ملبد بالغيوم، و ذو تدرجات منوعة لتداخل الألوان الزرقاء والبيضاء و الفيروزية، يتوسطها عنوان الرواية بخط ضبابي مظلل و كأنه خُط بيد مهزوزة في الهواء.
لقد شدني رسم الغلاف، و نوعية الورق المستخدم، فبدأت بقراءته، حتى وصلت في نهاية الرواية إلى الجملة التي فسرت لي معنى الغلاف وهي :-
” بعد خروجي من السجن، وعودتي إلى الجامعة مرة أخرى، أدركت أني صرت وحيدا، كورقة سقطت من شجرة، وحملتها الريح إلى البعيد”.
المقدمة و الاستهلال :
بدأت في قراءة الرواية بتاريخ 26/12/2023م، مستهلا أول عبارة محفزة في الكتاب وهي ” سأكون كاذبا إن قلت لكم أن الأسماء و الأحداث والشخصيات هي من نسج الخيال …..” ، عبارة تستفزك كقارئ لأن تستمر في قراءة الرواية، ويعقبها تساؤل على صفحة منفردة ” ما الجدوى من حب يسير بقدميه نحو المقبرة ؟.”
و ما أن تبدأ بالقراءة التأملية حتى تواجه كمًا مهولًا من القراءات الأدبية المنوعة و القيمة من حيث فرادتها الفكرية و التاريخية مع تسلسل زمني دقيق، وهذا أظهر سعة إطلاع الكاتب حسام الرشيد على كافة أنواع الأدب السياسي و الاجتماعي بكافة أنواعه، فتجلت فرادة الرواية من حيث تميزها بالبناء العلمي المحكم والإثراء اللغوي الفريد والمعرفي المتعدد الجوانب.
حيث بدأ الكاتب المبدع “حسام الرشيد” روايته بطرح موضوع هام بطريقة “flash back” من الآخر للأول، يتناول فيه ” خطوات الكتابة ” لدى الكاتب و التطرق لتحديات كتابة الرواية، ومن ثم التطرق إلى الحالة التي قد يمر بها الكاتب وهي ” قفلة الكاتب ” أو “writer’s block” فتخال نفسك تقرأ سيرة ذاتية للكاتب تثير تشوقك لإكمال قراءتك باستمتاع شديد، ناهيك عن روعة التفاصيل الصغيرة.
فهي وصف دقيق لتجربة معاشة قد تقودك لا شعوريا إلى الكتابة، ومن ثم إلى الاستزادة بالمعرفة، لكثرة ما يطرح فيها الكاتب من عناوين لكتب قيمة قرأها بتمعن، باثًا في روايته بين الحين والآخر جملهُ الحكيمة مثل: ” قررت أني لن أزوره، ولكن للأقدار سهامها التي لا تخيب “.
و يحرص على أن يعلمك قيمة الوقت وهو يصف استخدام الساعة الرملية عندما يصفها بدقة في ” وجعلت أراقب الساعة ذات ذرات الرمل وهي تسقط بانسياب من التجويف العلوي البيضوي الشكل إلى التجويف الأسفل، مرورا بالعنق الدقيق الواصل بينهما “.
حتى تكتشف أن الصفحات من رقم (11- 40) و التي تنتهي بموت الروائي إلياس فريد، كانت متخصصة في وصف حياة الكُتّاب ومعاناتهم و كيف يضعون فكرهم على هذه الأوراق البيضاء لتبقى خالدة على مر الأزمان، و يتنقل الكاتب بك متحركًا في روايته بين العديد من مكتبات عمان لتستنتج كقارئ و بطريقة غير مباشرة إلى نهاية الكتب مهما كانت قيّمة، حيث تنتهي على أرصفة المكتبات مع دنو في أسعارها بعد حين.
ومن هنا لمست إبداع الكاتب المميز في طرحه لموضوع الرغبة في الكتابة مع كل المعاناة التي يمر بها الكاتب والكتاب معا وهذه الصفحات وحدها قد تصلح كتيبا يقرأه الجميع للحث على الكتابة و القراءة وتنمية اللغة بشكل سليم.
الرواية :
تدور أحداث الرواية مكانيا في الأردن وتحديدا في الجامعة الأردنية وجبل الأشرفية ومناطق كثيرة وصفها الكاتب وصفا دقيقا من خلال تجوله بالقارئ في شوارع ومحال معروفة في عمان، و يسهب في وصف لباس الطلبة و الشخوص في روايته ليظهر أثر الفكر والمكان على شخوصه بين الحين والآخر .و لكن الكاتب بذكائه يقحمك في أماكن كثيرة خارج الأردن باستعراضه الشيق للكتب القيمة التي تزخر بها روايته وهي كثيرة و متنوعة و قيمة.
و ما إن وصلت إلى الصفحة (43) حتى بدأت أدخل في عالم الرواية، لأجده عملا أدبيا رفيع المستوى أخذ يشدني كثيرا إلى الاستمرار في التوغل فيه وإنهائه، وما إن وصلت إلى آخر صفحة (239) والتي تظهر الفهرس الذي يحتوي على العتبات كلها، ليصبح لكل عتبة مذاقها الخاص بعد القراءة : مثل ” الشرارة الأولى ” وهي التي يحتاجها أي كاتب، و” الحب وراء الأشجار ” فهو يؤكد مقولة ” لا يوجد غصن حي إلا و هزه الهوى ” ، و ” رسول إلى الجحيم ” و هو فعلا جحيم دخل إليه البطل في الرواية، و حتى تصل إلى عنوان ” المبارزة الأخيرة لدون كيشوت “.
تجد أنك كقارئ أنهيت رواية ممتعة لا تخلو من الدعابة في كثير من المواقع الروائية مثل مقهى الجامعة، و تكتشف أن عتبات النصوص التي وضعها الكاتب للدخول إلى النصوص جاذبة، و التي بينت هوية النص و أثارت ذهن القارئ لتحثه للبحث عن الرمزية بين العنوان والنص وكما أنها استشرافية تقودك إلى فك شفرات العنوان الرئيس ” الآن في العراء ” .
فالشاب الجامعي هو الراوي وهو الشخصية الرئيسة والذي يدرس في الجامعة الأردنية، وله أخت اسمها أمل، وأب فقد ساقيه في الحرب، وأصدقاء ثانويون كل منهم تفرع بإتقان من جذع الرواية فزاد من قوة الرواية وحبكتها وبناء حبكتها.
تتناول الرواية الفترة الزمنية من التسعينات وحتى العصر الحديث و لكنها لا تخلو من امتداد زمني يسبق التسعينات بكثير استمده الكاتب من ذاكرة الآباء في الرواية، أو من الكتب التي طبعت قبل ذلك بكثير مثل الأمير ” لميكافيللي ” وغيره، لتقود الشباب للتفكر بكل عقلانية في التجارب التي سبقت حياتهم و التعلم منها.
فالرواية فيها شوق ووله، و تمرد، وتضارب في الفكر السياسي، وتطور في قوانين الأحزاب، فهو يجيب على تساؤلات كثيرة لدى الشباب عن آلية جذب الشباب للتحركات الحزبية التي كانت ممنوعة يوما ما وتغيرت النظرة إليها حاليا .
كما تظهر الرواية الأخت أمل وهي تنتظر طيلة الرواية أن يعود خطيبها من تونس ولكن للأسف، تصل إلى عمها معلومات عن حقيقة شخصية خطيبها “وعد” المستهترة بالآخرين وعدم إيفائه بوعده لأمل، ورغبته في العمل مع شركة أجنبية قد يجد من خلالها فرصة للثراء السريع، وهذه قضية مهمة يعاني منها كثير من الشباب الذين يبحثون من خلال الشركات الأجنبية عن فرصة عمل تغير نوعية حياتهم وقد يمرون بحالة نفسية خاصة، لها إيجابياتها وسلبياتها نتيجة المرور فيها، وهنا تم إعمال عنصر التوعية باستقراء كل جوانب التجربة.
كما تجد شخصيات منوعة في الرواية منها الغامضة والحاضرة والغائبة والتي تظهر من خلال الحوارات ذات الإيقاع البطيء أحيانا والسريع في مواقع أخرى.
كما كان لوصف اللباس الدقيق دوره في الرواية، حتى الصور المعلقة على الجدران لها وقعها على القارئ، فكانت زاوية خاصة ينأى الكاتب بالقارئ في تأملها و يقف عندها لتكون مصدرا يمدك بمزيد من الثقافة التاريخية مثل صورة ” غالب هلسة” و “المحاربين مع والد البطل ” و التي تتناول حقبة تاريخية من حياة الأب المحارب …
” أحدق في تلك الصورة التي تضم أبي مع خمسة من رفاقه، استشهدوا في حزيران، و سادسهم كان أبي الذي التهمت الحرب ساقيه “.
و بطريقة ذكية و فريدة من نوعها تناول موضوع الإرث ومدى مصداقية الوثائق التي تتعارض مع مصالح أحد أفراد العائلة بعد وفاة الجد، والتي كانت سببا بينًا للخلافات العائلية وضياع الحقوق لوالد الشخصية الرئيسة، فهذا جانب آخر أولاه الكاتب أهمية قصوى لما تبثه من شعور بالظلم والحقد والعداوة وشحن البغضاء في العائلة الواحدة.
كما أظهر الكاتب بفنية ومهارة عالية تصرفات الشخوص المنوعة في الرواية و كيف أثرت على تصرفات الشخصية الرئيسة و على سير الأحداث، وكيف تأثر البطل في الأحداث التي مر بها من خلال تصرفات الأصدقاء حتى و لو كانوا ذوي أدوار صغيرة مهمشة لانعكاسها على نفسية البطل ” مثل استخدام الحافلة للتنقل “.
لم يغفل الكاتب عن إظهار أثر التجارب العاطفية على تصرفات الشباب و الإخفاقات التي يمرون بها لعدم قدرتهم على تجاوز حدة مشاعرهم تجاه أفكارهم المتضاربة مع احتياجات المرحلة الوجدانية ( وطنيا أو عاطفيا ) التي يعيشونها، فتطرق للحرب في أفغانستان والاكتئاب و الفصل من الدراسة وحرق كتاب ” الأمير “.
لقد تناولت الرواية البعد الاجتماعي للمجتمع وقضية الفقر و الصراع الطبقي الضاغط على الشباب و تعدد الأفكار السياسية إضافة للتطرق للبعد الجسمي للأب وحالته بشكل عام حيث وصف الكاتب بإبداع حالته في النهار والليل وأثناء خروجه من البيت وعند مواجهته أي بعد سياسي، لأن حياته بنيت على التضحية و حب الجذور الوطنية و لكن الأب لا يخلو من إحساسه بالظلم من أخوته بشكل عام بسبب الحجة التي لا يعترفون بتوقيع الجد عليها.
أما الحالة النفسية لكل الشخوص بدءا من الشخصية الرئيسة أو الحبيبة الغامضة أو الأصدقاء أو المدرس الجامعي – عندما لم يسمح للشاب المتأخر بالدخول وأدخل الفتاة – فهذه من المقارنات التي تطرح بين الحين والآخر فلم يغفل عن الإشارة إليها .
لقد أسهب الكاتب في وصف دقيق لكل شخصية محبة أو كارهة أو حقودة أو غيورة أو متسلقة أو تبحث عن مصلحتها ولو على حساب الآخرين، أو كانت مشحونة أو مسالمة أو مرضية أو سليمة حتى تطرق من بعيد للبعد الديني، ولمح للتعايش بسلام في الحياة.
ولم تخل الرواية من إظهار أهمية التعليم و الثقافة في تحقيق التغير المنشود و الإيجابي للوطن، مرجحا تقبل التطور القانوني والجزائي لأن الحقيقة ستظهر ولو بعد حين، فالشخصية الرئيسة للبطل الذي دخل السجن وخرج منه وأكمل تعليمه، في حين لم يتوقف الأب والأخت عن دعمه طيلة الرواية، كما شاركاه في المسيرة الشبابية في الجامعة لأنهم يعتبرون أن الوطن يستحق كل عطاء وتوجه ديموقراطي بنّاء.
هناك نقطة تحول في كل شخصية أظهرتها النصوص بوضوح أثناء تحولها من السعادة إلى الشقاء أو العكس، أو التحول من النقيض إلى اتجاه آخر ، فوصف الكاتب تصرفات الشخصيات بعد التحول وكيف اختلف سلوكها عن السابق معطيا أمثلة على ذلك مثل الاختفاء عن العيون، أو الاقتران برفقاء لا يشبهونهم أبدا بل لمجرد تحقيق تحول ما في حياتهم.
يستطيع القارئ متابعة مراحل نمو الشخصية تبعا للأحداث المتزامنة فعلى سبيل المثال: أمل وهي تتفنن و تتقن التطريز في الجمعية، و تطورها في اتخاذ القرار تجاه خطيبها، مع أن الأب و الأخ كانا متفهمين لحالتها النفسية، أو بالتحاق الشخصية الرئيسة بالحزب، أو يمكن ملاحظة ذلك من خلال نمو العلاقات بين الأشخاص وفقا للفكر الممنهج بينهم.
لقد أتقن الكاتب ترتيب الأحداث زمنيا، و كان ماهرا في الرجوع بالذاكرة حسب الموقف الذي يتطلب ذلك، فهناك بداية ووسط ونهاية، و أحيانا يوضح بتمهيد مبسط أسباب المشكلة، ومن ثم يتدرج بالحدث حتى يتصاعد بالأحداث كلها و يكتمل بناء الحبكة فتصل بك إلى قمة الصراع ثم الهبوط و الوصول إلى الحل، موظفا الطرق المشوقة مثل استخدام سيارة صديقه وإبدالها بالمواصلات العامة خوفا من التعقب فيبعد القارئ عن الرتابة و السكون.
لقد تمكن الكاتب من بناء روايته بإحكام، فكانت الجامعة الأردنية منارة العلم التي تشع بالفكر المتجدد، و شكلت الحدث الرئيس لبداية ظهور أي مشكلة تحول لدى طلبة الجامعة لأسباب وطنية أو اقتصادية أو عاطفية، وجاءت الأحداث بسرعة تتناسب وقوة ما يحدث لتبعد القارئ عن الرتابة والملل ومع الحرص الشديد على توعية القارئ بالمستجدات الوطنية والقانونية و توضيح طبيعة فكر الشباب .
لقد وظف الكاتب تقنيات السرد من خلال لغة بليغة و بثروة لغوية فريدة وبسعة اطلاع أدبي كبيرة تظهر من خلال وصفه الدقيق للأماكن أو التصرفات أو في الصور أو وصف التخيلات للشخوص أو عند توقف السرد أو زمن الأحداث، أو عند تأمل صورة على الجدار، فيوقف مجرى الأحداث بدون مبالغة، ويساعد القارئ على فهم الأحداث و الشخصيات، فتجده يقطع أحادية الصوت للسارد ليحقق اختلافا من نوع آخر لتجنب الملل و الرتابة.
و في الختام خرج البطل من محنته العاطفية والسياسية متعرفا على حقيقة العلاقات في الحياة الواقعية، عائدا لإكمال تعليمه الجامعي بعد أن طاف على العديد من القضايا الاجتماعية والسياسية والعاطفية والنفسية من خلال علاقاته الشخصية ولكنه بقي يحاور نفسه عن هذه الحبيبة التي مرت بحياته يوما ما.
إن هذه الرواية تلامس واقع الشباب في العصر الحالي مع أنها مليئة بالإخفاقات التي تواجههم، لكنها رواية موجزة لحقبة من تاريخ المنطقة العربية التي تحرص على تنمية الحس الوطني وغرس الأخلاق الحميدة، فهي عبارة عن صور متعددة لما قد يمر به كثير من الشباب في بداية تعرضهم لأي محنة في طريق تحقيقهم لذاتهم، فهي تعرض على القارئ قوى الجذب المنوعة التي قد يعاني منها الشباب، وكيف يمكنهم الخروج من بعض المآزق بالصبر والعمل الجاد، وعدم التوغل في تجارب بالخفاء عن الأهل لمجرد الهروب من موقف عاطفي خاص مبني على الوهم والخيال، فالحياة تستحق أن تعاش حتى ولو كنت فقيرا وبدون حب و محاطًا بالإخفاقات.
أهنئ الكاتب على هذه القدرات الأدبية في كتابة الرواية، وخاصة إتقانه وصف الخلجات النفسية العميقة بكل وضوح، و اتزانه المذهل في الحفاظ على رقي طرحه للشباب، وحرصه على بث القيم الإيجابية تجاه الأب و الأخت و التريث قدر الإمكان في التعامل مع أي قضية تمس كرامة الوطن، وتمتعه بالدعابة في مواقع تعيدك للزمن الجميل، والصدق في شرح آثار قوة الحب الذي قد يدفع الشباب للاندفاع في اتجاه خاطئ و عدم تحقيق أي هدف، فيمكنك التعلم كيف تواجه مثل هذه القوى من خلال قراءة رواية : “الآن في العراء”،
أوصي باقتنائها في كافة المكتبات العربية فهي كنز قيم يمكن توظيفه في المجتمع لتنمية القراءة والمعرفة وتمكين الفرد من اللغة العربية السليمة.
دكتورة أمل علمي بورشك

13/1/2024م
الأردن ، عمان

 

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى