واصف: الأغنية شريكةُ الجندي والمُقاوم
قدم نائب نقيب الفنانين الأردنيين وأستاذ الموسيقى بكلية الفنون والتصميم في الجامعة الأردنية الدكتور محمد واصف عرضا تشخيصيا للواقع الفني والثقافي، في ظل ما تمر به المنطقة من ازمات أثرت بشكل جليّ على المشهد الفني الأردني والعالمي.
وقال واصف في تقديمه: ” لعلّ الكلام، بما هو عليه وسيلة لتناقل الكلام والمعرفة، لم يعُد له ذات المعنى بعد كلّ الذي رأيناه في قطاع غزّة. ولأنّ لا أحد بوسعه اليوم غضّ الطّرف عن الفاجعة المستمرّة، نجدُ أنفسنا في وضعٍ مُحيّر، بين الحديث والتزام الصمت، حول مشاكل أصغر مقدارًا، لكنّها تظلّ مهمّة، ومن المهمّ ألّا نتجاوزها متذرّعين بأنّ الأيدي مكتوفة، وأنّ الحال واقف على الجميع، خاصّة إذا ما وصل الحال للنقاش حول “لقمة العيش”، ألم يُطعم الله من جوعٍ قبل أن يُآمِنَ من خوف “لإِيلَٰفِ قُرَيۡشٍ، إِلَٰفِهِمۡ رِحۡلَةَ ٱلشِّتَآءِ وَٱلصَّيۡفِ، فَلۡيَعۡبُدُواْ رَبَّ هَٰذَا ٱلۡبَيۡتِ، ٱلَّذِيٓ أَطۡعَمَهُم مِّن جُوعٖ وَءَامَنَهُم مِّنۡ خَوۡف”.
منذُ طقس الإنسان الأول في كهفه، إلى المسرح الإغريقي وحتّى اللحظة، لم يعش الفنّ والفنانون بغياب الجمهور عن المعادلة، فأيُّ قيمةٍ لفنٍّ لا يصلُ متلقّيه؟ ولنبتعد في نقاشنا عن علاقة الفنّ بالترفيه، فالمشهد لم يعُد متمحورًا حول جمهورٍ يتجاهلُ الحدثَ الكبير ولا يرغبُ إلا بالاستمتاع بوقته، في ذات الوقت الذي يُعتدى فيه على إخوتنا وأخواتنا في غزّة.
الفنّ بطبيعته حمّال أوجه، وجانب الترفيه ليسَ إلّا وجهًا واحدًا: ماذا عن المعرفةِ التي يقدّمها، عن التقدّم على سلّم الحضارة، عن الإخلاص الذي يربّيه في نفوس القائمين عليه، ماذا عن كلّ الصفات النبيلة التي لحقت وستظلّ تلحق به؟ ولو تجاهلنا ذلك كلّه، كيف لنا أن نتجاهل وننسى من يعتاشون من الفنّ؟ كيف ننسى من انقطع مصدر دخلهم منذ السابع من أكتوبر، حيث توقّفت بعده كلّ الفعاليات الفنية، سواء على المستوى الرسمي أم على مستوى القطاع الخاص، ناهيكم عن التوقف الطويل الذي جرّته جائحة كورونا علينا ولم يتعافَ قطاع الفنّ منه بعدُ؟
وحال الأغنية والموسيقى ليس مختلفًا، فالعمل الخاصّ، في الفنادق والمقاهي وسواها من الأماكن التي اعتادت احتضان هذه الفنون ومقدميها، لم يعُد مُتاحًا، ما يضع الفردَ أمام سؤالٍ لم يتوقّع للحظة أنّه سيُجبر على مواجهته: أيغيّر مهنته؟ هو من لا يتقن مهنةً أخرى، هو من اعتاد على تقديم فنه وعلى المهرجانات الكبيرة، التي تُقام ولو مرّةً واحدة في العام، كما مهرجان جرش أو الفحيص وغيرها، ليؤمّن نفسه وأهله؟ شكّه وحيرته إزاء المستقبل تقودنا لنسأل بدورنا: لو -لا قدّر الله- استمرّ الحال القائم إلى فترة طويلة، ما جرّ إلى إلغاء دورات المهرجانات التي اعتيدت إقامتها، أتملك وزارة الثقافة والمؤسسات المحليّة المعنية بشؤون الفن وأهله بديلًا، أيّ بديل، يُتيح للفنّانين إدامة أعمالهم وقوت أهل بيتهم؟
ثمّ إنّني أُسائل نفسي، مندهشًا من قدرة البديهيّات على إعادة طرحِ نفسِها بصيغٍ جديدة: ألا تُعدّ الأغنية السياسيّة ضرورة في أوقات كهذه، وإلّا كيف أُتيح لنا في السابق التعرف إلى أبطالنا وشهدائنا، هل كانت النار لتهبّ أو كان للبارود أن يغنّي؟ أجزم أنّ الإجابة ستجيء بنفيٍ حاسمٍ، وأنّه لم يكن بمقدور الوطن أن يطلب الشباب ويتمنّى لولا الأغنية.
يتساءل المرء، في زمنٍ طغت فيه آلة الحرب، وعلا صوتها صامًّا الآذان، مغشيًا القلوب التي تنبض بالحياة حقيقةً ومجازًا، مرّة بالأحياء الذين راوغوا الطلقة، ومرّة إذ تلتصق ذكرى من رحلوا رسالةً على جدار الزمن الموحش، كما أسماه يومًا حيدر حيدر: ما الذي يُمكن أن يُفعل؟
وكما تغشي الحيرة الأعين، مشوِّشةً التفكير، على العقل ألّا يستسلم لواقع الحال، بل أن يظلّ وراء الممكن قدمًا بقدمٍ وساقًا بساق؛ والأغنية طالما كانت في طليعة الممكنات، في وقتٍ نرى أنّ علينا من اللازم فيه أن نكثّف إنتاج الأغنيات، بصرف النظرِ عن مُسمّاها.
وإذا كانت الأغنية تنطلق من النغم، فكذلك تربة هذا العالم الفسيح: الإنسانيّة فيها رديفة الجذور، الإنسانيّة التي باتت مفهومًا غريبًا، مثل نباتٍ نسي علاقته بالجذور، فذبل، فما يحدث اليوم لا إنسانيّة فيه حدًّا لعلّنا بحاجة معه لابتكار كلمة جديدة، كي لا تظل الـ”لا” تسبق “الإنسانيّة”، ولئلا يقترن عالمنا اليوم بكلمة قبيحة كما “اللاإنسانية”.
إلامَ يحتاج المُناضل أو أيّ مواطن، والواقع كما هو ينام ويستيقظ تحت نير النيران؟ إلى البندقيّة؟ إلى الحجر؟ إلى الـ”آر بي جي”؟ لعلّ الإجابة واحدة: نعم، ولكن… ولكن، يحتاج إلى السند: فأغنية تنطلق من حنجرة راديو أو قرص مدمج، لا تختلف كثيرًا عن المساعدات اليوميّة، بل حتّى، في هذه اللحظات الصعبة التي بات فيها الجمادُ متّهمًا، وشاحنات النقل تُعامل كما قُطّاع الطرق: تختطف ويُبقر بطنها، قد تصلُ الأغنية، ومن الوصول ما جمّع، رغم حرمة الدم التي ما عادت بحرمة.
نقول “ليسوا أرقامًا”، إذن لتتصدَّ الأغنية لقصصهم، لتُحدّثَ عنهم العالمَ بأسره، حنينًا أو أنينًا أو ألمًا أو تفجّعًا أو فرحًا وسعادةً تخترق الوجه ابتسامةً؛ فعلى مرّ تاريخ الحروب والاستعمار والاضطهاد، طالما وقفت الأغنية كتفًا إلى كتفٍ جنب الناس والمقاومين، مدماكًا بمدماكٍ في وجه كلّ أشكال الظلم والاستبداد.
ما بيدِ الفنّان؟ أغنية كما الورد، يحملها سلاحًا، يشهره أوّلًا، يسحب الأقسام ثانيًا، ويخترق الجدران ليرفعَ الأرواح المتعبة، ويربّت على أكتاف أناسٍ ذاقوا الويل ويلات مضاعفة.
أؤمن أكثر من أيِّ وقتٍ أنّ الأغنية شريكةُ الجندي والمُقاوم، وبأنّ علينا، عليهم، على الجميع، أن يفعلوا شيئًا كيلا نقعدَ عن العمل، كلّنا، فأيُّ غبنٍ ابتُدئ في مطرحٍ سيصلُ المطارح كلّها آجلًا إن لم يكن عاجلًا.