عبدالله الزازان يكتب نايف السديري و موازييك البحث في دفتر الذاكرة

عمان _ متابعات _ بسام العريان

كتب عبدالله الزازان
أهداني الأديب السفير نايف بن بندر السديري نسخة من كتابه ( موازييك الذاكرة .. بندر بن أحمد السديري إنسانًا وشاعرًا) وهو كتاب يتناول فيه سيرة والده الأمير بندر بن أحمد السديري، – طيب الله ثراه – وبرغم أن مسمى الكتاب يتمحور حول شخصية بندر الإنسان وبندر الشاعر، إلا أن نايف تطرق إلى سيرة والده من جوانب مختلفة أملاها عليه تجربته ككاتب وأديب ومفكر ، وتنوع وشمولية وسعة أفق شخصية والده ، حيث تناوله من جوانب مختلفة ، شخصية واجتماعية، واقتصادية، وثقافية، وأدبية، وحضارية، وإنسانية. وسلك سبيل الاجتماعيين والنظريين والتحليليين في دراسة شخصية والده، فجاء الكتاب حافلًا بالوصف الدقيق، والإحاطة الشاملة، والنظرات والتحليلات العميقة.

حيث سلك فيه مسلكًا علميًا تحليليًا يقوم على الوضوح والموضوعية، ووفق السياق التاريخي الملائم، متمثلاً الطريقة العلمية الحديثة في التوثيق والتحليل والاستقراء، واستقصاء المعلومات، واستخلاص الحقائق، وتنزيل التجربة على الواقع بحيادية وموضوعية .

فجاء الكتاب وثيقة تاريخية، ورواية رائعة، وثريّة، وملهمة، مليئة بالنظرات والتحليلات العميقة لكاتب وأديب ومفكر فخور بوالده ، ومعبراً في نفس الوقت عن الحب الكبير الذي يكنه له ، والآمال العراض التي كان يرجوها له ، والتي جسدها لنا في هذا النص العاطفي الحزين ، الذي يروي فيه قصة هذا الكتاب قائلاً :

( أوصاني والدي بكتـابـة سـيــرته بشكل أو بآخر ، بعد رحيله . أكد ذلك مراراً وشدد عليه . كان يفعل ذلك كلما ألححت عليه بنشر قصائده وتجربته الثرية في الحياة التي عاشها وحيوات من عاصرهم من أبناء هذا الوطن المضيء .. هذا الوطن السخي .في الواقع رضخ – والدي – عدة مرات للحوار والنشر عبر الأثير والتلفزيون والصحف كان تنازلاً محدوداً ليس بمستوى التجربة ، وفي المقابل رفض عروضاً أخرى قدمتها له ، وهو يحدجني بنظراته الحنونة.

تلك التجربة الإنسانية الجميلة بما فيها من مآس، أفراح ، رجولة ، شهامة ، نخوة ، مروءة وكرم لافت . نظراً للإمكانات المحدودة جدا في ذلك الوقت . كان من سمات الجيل الذي انتمى اليه – وما زال حتى اللحظة – التكيف والتعايش السريعان مع المتغيرات ، وقد حدثت بشكل يصعب وصفه في هذا السياق ! جيل عاش شظف العيش في زمن الفاقة والأوبئة ، في الربع الثاني من القرن الميلادي المنصرم ، ثم عاش الترف والرخاء في الربع الأخير من القرن نفسه وحتى الآن . لم يتغير كثيراً ، بل نراه أحياناً يزداد تشبثاً بأصالته وتراثه العريقين . إن ظاهرة المحاكاة التي أسسها جيل والدي مع الجيل الذي تلاه ، وهو الجيل الذي أنتمي إليه سوف تتواصل مع الأجيال القادمة – إن شاء الله – ترسيخاً لسمة [ المجايلة ] التي ينادي بها كثير من مثقفي هذه البلاد ، هي في الواقع ظاهرة أصيلة . المحاكاة أسست لنفسها ثقافة تنبع من بيئتها المحلية وفضاءاتها الرحبة ، وفي الآن ذاته كانت منفتحة على ثقافات أخرى خارج نطاقها ، بشقيها الجغرافي والسياسي.

لن أحشر ما بين غلافي هذا الكتاب كلمات وجملاً لمجرد تنفيذ وصية والدي الحبيب – رحمه الله – ، ونزولاً عند رغبة كثير ممن أحبوه ، ودرجوا منذ وفاته على مطالبتي بإنجاز هذا العمل ، حتى أصبحت مطالبتهم – التي هي محل تقديري واعتزازي – عبئاً لا يطاق ، أدخلني في دوامة الخوف من التقصير . فعلى الرغم من أن الوصية هي الدافع الرئيس للكتابة ، هناك أسباب أخرى وراء هذا الكتاب.

شرعت في الكتابة يوم ۲۹ يوليه ٢٠٠٤ جالساً على كرسي قصي في محطة قطارات مدينة ملقا الإسبانية ، أرسم خريطة لمشروع هذا الكتاب الوليد ، وأكتب عناوين فصوله ، بعد أن أمضيت عاماً كاملاً – منذ وفاة والدي – في مراجعة وتدقيق المستندات كافة التي بحوزتي عن الوالد – رحمه الله – منتظراً موعد القطار الذي أقلني إلى مدينة مدريد . بدأت الكتابة ، تلك اللحظة ، منعتقاً من كل قيد ، معتمداً على ذاكرتي حيناً ، وعلى الشهود والوثائق المتاحة حيناً آخر ، باحثاً عن لغة طيعة وسلسة ذات رونق يشبه الشعر ، فمن أكتب عنه اليوم شاعر في المقام الأول ، وكان يطيب له إطلاق هذه التسمية عليه . سأكتب تخليداً لذكرى والدي الفقيد نعم ، تكريساً لحبي له ، نعم وفي الآن ذاته أخلد ذكرى جيل وأكرس حبي لكيان اسمه المملكة العربية السعودية ، الذي ولد بعد مخاض عسير ومؤلم .

منذ صباي وأنا أدرك أن الكتابة – بكل ألوانها الجميلة – أهم مشروع إنساني على الإطلاق ، وكتابتي اليوم ، تنبع من مكامن الحزن بداخلي . وهو ما يجعلها أكثر دفئاً وأكثر قبولاً . سأبقى ممتناً ، لكل من ساعدني لإنجاز هذا العمل . أخص زوجتي هديل التي كنت أطلب منها قراءة كل فصل أفرغ من كتابته ، لتبدي رأيها ، الذي طالما أعجبني . أبنائي الذين اقتطع هذا العمل جزءاً من وقتي المخصص لهم ، أعدهم بالتعويض .

هذا الإرث / المهمة الذي تلقفته مجبراً ، أصابني دائماً بالاضطراب ، التشويش والحيرة كيف لا ؟ وأنا أنزلق لا إرادياً ، لحظة كتابتي كل كلمة ، إلى منطقة الحزن اللازجة متأرجحاً نحو السقوط ، وأكفكف دموعي لفراق إنسان كنت أكن له الحب والإجلال منذ كنت طفلاً ، بحيث لم أفكر قط ، خاصة أيام صباي في قدرتي على تقفي أثره الذي طالما بهرني . مشاعري كانت مضطربة : ساعة أفرح بتخطي عقبة وساعة أحزن حين أتلمس بيدي اوراقاً كتبها ، ما زالت تنبض بالحياة وبقايا رائحته تفوح منها .

قراءة عاجلة وكتابة متأنية ، أو العكس ، لا فرق ، كانت شاغلي الدائم خلال إنجاز هذا العمل ، الفيصل في هذه الازدواجية المرعبة هو تقييمي الشخصي فقط . أقرر على مضض ، والحكم في نهاية المطاف للقارىء الكريم . تعثرت أكثر من مرة أثناء كتابة هذا النص المصيري بالنسبة لي . مرة أجزع وأخرى أدعي التريث لجمع مزيد من المعلومات عن الراحل من كل صوب . هنالك أيضاً خيط رفيع علي ألا أقطعه يفصل بين العام والخاص ، أي ما يمكن نشره وما لا يمكن أبي – رحمه الله – وآخرون عاصرهم لن يقبلوا – بطبيعة الحال – نشر كل ما عاشوه وشاهدوه ، ليس خوفاً من أحد بل حياءً واحتراماً لتاريخ الأجداد العظيم . تاريخ راكم قيماً خالدة سنبقى – بعون الله – نحفظها جيلاً بعد جيل ، وها هي الحياة بقفزاتها النشطه تثبت أن الإنسان لن يجاري تلك القفزات إذا كان بلا تاريخ يسنده ؟

كان والدي – رحمه الله – إنساناً عظيماً بظرفه وعفويته وقلبه الكبير ، ترك بصمة على حياة من حوله لن يموحها الزمن ، وسوف أبذل كل جهد ممكن في الصفحات القادمه لأميط اللثام عن شخصيته التي ظنها الكثيرون غامضة وعن حياته التي تشبه حيوات أخرى امتزجت ألوانها لترسم لوحة هذا الوطن من الماء إلى الماء..

ويداهمني سؤال يضج في رأسي : هل من الممكن جعل هذه السيرة رواية ممتعة لقارىء ما ؟ كم أتمنى ذلك . أحاول أن أخرج بحذر من دائرة الكتابة السيرية التقليدية ، التي تحرص على مطابقة المحكي للمعيش بطريقة حرفية مبالغة في الدقة والاستنساخ . تكسير خطية السرد وجعل الأزمنة متقاطعة ، متداخلة ذات حيوية تستفز القارىء هو قطعاً ما أردت لهذا النص الموسوم بالحقائق ، التي بذلت كل ما في وسعي لاستدراكها بعناية وشفافية فلكل إنسان حكاية ، وما أجمل أن تروى إن أمكن ذلك).

فمنذ اللحظة الحاسمة التي تلقى فيها وصية والده، بقيت هذه الفكرة [الوصية] مستحوذة على تفكيره، بدا له أن كل شيء يدفعه إليها ، حتى انتهى بكتاب يبهرك بعمقه ، يتميز شكلاً بأسلوب أدبي وترابط معنوي ،ومنهجاً بدقة وموضوعية ، كتاب يمتزج فيه الأمل بالألم .

نقل فيه بصدق وأمانة مبادئ وقيم وتجارب ومآثر والده، حيث تناول تاريخًا طويلًا مليئًا بالمحاولات والمبادرات، والتحديات والمواقف، والمصاعب والآمال والآلام. كفاحًا مضنياً استغرق قرابة سبعين عاماً ، خاضه بصبر وثبات وعزيمة وعصامية وإرادة وقوة مثابرة ، فقد كانت حياته رحلة طويلة من التجارب والمواقف والمبادرات والتحديات والدروس ، وسلسلة من النجاحات المبهرة يتملكه تفكير سليم وضبط منهجي ، وقدرة عى إستبصار الحقائق ، وعقلية آلية النجاح .

وكان نايف صورة عاكسة لشخصية والده يتمتع بقدرات نوعية ،وإمكانات علمية وفكرية وخبرات تراكمية .

فعندما نستعيد السنوات وننظر في خارطة نايف العلمية والفكرية والثقافية والدبلوماسية والاستراتيجية، نراه شديد التفاعل، كثير التنوع، واضح الوجهة، عميق الرؤية، يبدو له كل شيء ممكنًا. هذه المنهجية هي التي نقلته خطوة بخطوة في درج صعوده العلمي والدبلوماسي ، فقد كان لا يترك شيئًا للمصادفة، وكان دوماً ينظر في الاتجاه الصحيح.

عند هذا الطور، دخل إلى حياته العلمية والفكرية الدراسة في أعرق الجامعات الأمريكية ، لاستئثار أمريكا بالزعامة العلمية على مستوى العالم، فالفرصة لا تأتي إلا مرة واحدة في العمر، وبالذات عندما تتوفر فيها كل عوامل النجاح.

كان وجودي في الولايات المتحدة الأمريكية متزامنًا مع وجوده، فقد كنت على تواصل معه، كانت أراه في تلك الفترة ، شابًا نابها، ذكيًا، وعصامياً ، وعملياً يتميز بالطموح اللا محدود ، وفي غضون سنوات قليلة شيد تفوقه العلمي .

فقد كانت خطواته وثباتٍ عملاقة، كان حينها يدرس السياسة الدولية، والعلوم السياسية والاستراتيجية، وذلك استعدادًا لملئ دوره في الهئيات والمؤسسات والمنظمات الإقليمية والدولية ،كمنظمة الأمم المتحدة ووكالات الأمم المتحدة المتخصصة، والهيئات والمنظمات العالمية، ومكاتب الأمم المتحدة في جنيف، والمنظمات الحكومية الدولية، والمؤسسة الوطنية لحقوق الانسان، والمؤسسات الإستراتيجية الدولية ، ومراكز الإستشراف العالمية ، ووزارة الخارجية،

وعندما أنهى دراساته السياسية والاستراتيجية والدبلوماسية، تعين مديرًا عامًا لإدارة المنظمات المتخصصة بوزارة الخارجية، واختير ضمن وفد المملكة الدائم لدى منظمة الأمم المتحدة في نيويورك. وانتخب مقررًا للجنة الثالثة لحقوق الإنسان عن المجموعة الآسيوية في دورة منظمة الأمم المتحدة، وانتخب رئيسًا لفريق العمل الأول لنزع السلاح النووي، ورأس وفد المملكة في عدة اجتماعات دولية، وتراس وشارك في تنظيم جلسات عمل دولية، وشغل منصب سفير خادم الحرمين الشريفين في كندا، ومن ثم سفيرًا لخادم الحرمين الشريفين لدى المملكة الأردنية الهاشمية الشقيقة وسفيرًا فوق العادة مفوضًا غير مقيم لدى دولة فلسطين الشقيقة، وقنصلًا عامًا بمدينة القدس.

وقد نشر السفير نايف عددًا من الدراسات السياسية والإستراتيجية والدبلوماسية حول آليات عمل الأمم المتحدة كما نشر دراسات في العلاقات الدولية ، وألف ونشر هذا الكتاب الرائع ( موازييك الذاكرة .. بندر بن أحمد السديري إنساناً وشاعراً ).

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى