زراعة الإنحطاط …!
بقلم م. عبدالرحمن “محمدوليد” بدران
حتى مساء يوم 4 حزيران من العام 1967 كان كثير من العرب ينتظرون لحظة إعلان إذاعة صوت العرب تحرير أرض فلسطين وعودة أهلها إليها، خصوصا في مصر التي كانت تملك أقوى جيوش المنطقة في ذلك الوقت، وقد كانت الشعوب العربية لا تسمع إلا خطابات الثقة بالقدرة على تدمير دولة الاحتلال ورميها في البحر وتحرير أرض فلسطين في ساعات قليلة، ما جعل الفلسطيني يحلم ويخطط ماذا سيفعل عند عودته لبيته وأرضه التي أرغم على مغادرتها قبل 19 عاماً، لتصحو الأمة على الصدمة الكبرى صباح الخامس من حزيران بعد تدمير الأسطول الجوي المصري بأكمله والذي كان يتشكل من مئات الطائرات الحربية خلال ساعات فقط، ما سمح لقوات الاحتلال باحتلال شبه جزيرة سيناء بالكامل بمساحتها التي تزيد عن 60 ألف كيلومتر مربع، كأكبر مساحة يسيطر عليها الاحتلال في كل حروبه مع الشعوب العربية إلى يومنا هذا، بعد معارك طاحنة مع القوات المصرية لم يتمكنوا فيها من الصمود طويلاً بسبب تدخل الطيران الإسرائيلي لحسم أي معركة لصالحهم مقابل طيران مصري لم يعد موجوداً، في المقابل كانت الصدمة في الضفة الغربية بسقوط مدن الضفة واحدة تلو الأخرى، حتى الوصول إلى القدس الشرقية التي تضم المسجد الأقصى المبارك وكنيسة القيامة وحائط البراق، والتي كانت منطقة منزوعة السلاح منذ العام 1948 تحت الحكم الأردني لتقع تحت الاحتلال في نكسة حزيران، إضافة إلى هضبة الجولان السورية التي انضمت للأراضي المحتلة بعد معارك غير متكافئة مع السوريين، وهنا كانت الصاعقة التي استيقظ عليها جيل بأكمله كان يحلم باللحظة التي يعود فيها لأرضه ليفتح عينيه على حقيقة احتلال أضعاف مساحة تلك الأراضي خلال 6 أيام فقط!
وبرغم محاولات استعادة الأراضي بالدبلوماسية من خلال الأمم المتحدة، إلا أن وزير خارجية دولة الاحتلال وقف يومها قائلاً بكل تحد لدول العالم: “لن تعترف إسرائيل بأي قرار يصدر عن منظمة الأمم المتحدة وتطلب منها فيه الانسحاب إلى داخل حدودها السابقة، حتى إذا صوتت مع القرار 121 دولة ولم يصوت ضده سوى إسرائيل”! وبدأت بالفعل دولة الاحتلال ترسيخ الأمر الواقع بإعلان توحيد القدس الشرقية والغربية في عاصمة لدولتها بدلاً من تل ابيب، بل وبدأت مباشرة بهدم البيوت العربية وطرد سكانها منها.
فماذا فعل المصريون تحديداً بعد ذلك وهم القوة العربية الأكبر، بعد خسارة معظم جيشهم وجزء من أرضهم وآلالاف الشهداء والجرحى والأسرى، خصوصاً بعد أن خرج قادة دولة الاحتلال بعد نهاية الحرب بتصريحات أن هذه الحرب هي آخر حروب دولتهم، وبأنه لا يمكن لقوة على وجه الأرض أن تجبرهم على مغادرة شبر من الأراضي التي سيطروا عليها، وبالفعل بدأ جيش الاحتلال بعدها مباشرة في بناء التحصينات والقواعد العسكرية بل وحتى المستوطنات في شبه جزيرة سيناء والتي وصل عددها إلى 18 إعلاناً منه بأنه باق فيها إلى الأبد، وكان الجندي المصري يشاهد ذلك بعينيه غرب القناة ويعتصر ألما دون القدرة على فعل شيء، حتى انطلقت بعد الحرب بفترة قصيرة أطول الحروب العربية مع دولة الاحتلال.
حرب الاستنزاف، تلك الحرب التي استمرت ما يقارب الثلاثة أعوام، ما بين قصف متبادل وعمليات عسكرية برية وبحرية وجوية متبادلة بين الجيش المصري وجيش الاحتلال، قدم فيها المصريون آلالاف الشهداء دفاعاً عن أرضهم وتعزيزاً لحقهم فيها، وربما من المفارقات هنا سعي وزير دفاع دولة الاحتلال حينها موشي ديان في العام التالي لاحتلال سيناء لتشجيع أهلها على المطالبة باستقلالها لنزع أي أحقية مصرية فيها في المستقبل، وبالفعل جمع كبار العشائر في ذلك الوقت وقدم لهم كل التسهيلات الممكنة والذين بدورهم كانوا يتنفسون حب تراب أرضهم كما عرف عنهم على الدوام، فكانوا على تنسيق دائم مع المخابرات المصرية التي شجعتهم على إبلاغ الاحتلال بإمكانية قبول المقترح، ليتم إعداد مؤتمر كبير (مؤتمر الحسنة) ودعوة وسائل الإعلام له لإعلان قبول عشائر سيناء ذلك أمام العالم، ليخرج الشيخ سالم الهرش قائلاً يومها: “إن سيناء مصرية وقطعة من مصر ولا نرضى بديلاً عن مصر وما أنتم إلا احتلال ونرفض التدويل وأمر سيناء في يد مصر، سيناء مصرية مائة في المائة ولا نملك فيها شبراً واحداً يمكننا التفريط فيه” في موقف أصاب قادة الاحتلال بالجنون، ولم تتوقف حرب الاستنزاف إلا في العام 1970 بعد قبول وقف إطلاق النار لتعود القوات المصرية بعدها بثلاثة أعوام مسطرة ملحمة دونتها كتب التاريخ، عندما ردت الصفعة لدولة الاحتلال في أكتوبر 1973 بأقوى منها، صفعة جعلت هذا الاحتلال يقتنع بأن لا حل مع المصريين سوى بالرحيل عن سيناء، وبرغم ذلك قام هذا الاحتلال بعد الحرب مباشرة بإنشاء أكبر مستوطنة له في أرض سيناء (مستوطنة ياميت) في تحد واضح لوقف إطلاق النار وترسيخاً لسياسة الأمر الواقع وفرض الاستيطان، معلناً خططه استيعابها ربع مليون إنسان لتكون ثالث أكبر ميناء في دولة الاحتلال، لكن المفارقة بأن شارون الذي كان من أوائل المعلنين السيطرة على سيناء هو ذاته الذي قاد حملة إخلائها والانسحاب منها بعد توقيع اتفاقية السلام في العام 1979، أي بعد نهاية الحرب بستة أعوام ليكتمل الانسحاب في العام 1982 من كامل سيناء، باستثناء مدينة طابا التي لجأ المصريون للمحاكم الدولية لاستعادتها وهو ما حدث بالفعل في العام 1989، لكن هذا الاحتلال الذي سعى خلال 15 عاماً احتل فيها أرض سيناء لزراعة الانحطاط فيها كما هو ديدن كل احتلال مع كل أرض يحتلها حتى جاء أحرار مصر وطهروها من قاذوراته هو ذاته الذي عمل قبل انسحابه على نسف وتدمير كل ما استطاع تدميره فيها، بل وأجبر المئات من المستوطنين فيها وبالذات في ياميت بالقوة على مغادرتها بعد رفضهم الخروج منها وبرغم ذلك لم يخرجوا إلا وهم يرددون: لم نفقد الأمل، هذه أرض صهيون! حتى أن شارون الذي كان وزير الدفاع حينها وعد جنوده يومها بأنه سيكون هذا آخر تنازل عن شيء من الأراضي التي يسيطرون عليها، فهل كان صادقاً بعد ذلك؟
دخل جيش الاحتلال جنوب لبنان في 1978 وبقي فيه محتلاً 22 عاماً، سعى خلالها كعادته لزراعة كل أنواع الانحطاط والعملاء فيه، حتى خرج مدحوراً خائباً على يد أحرار لبنان في العام 2000 والذين طهروه من قذاراته بفعل مقاومتهم وصمودهم.
وكان قد بقي قطاع غزة تحت السيطرة المصرية من العام 1948 حتى 1967 العام الذي أصبح فيه تحت الاحتلال الإسرائيلي، وبقي كذلك حتى خرج شارون بشحمه ولحمه مرة أخرى في العام 2005 بعد 38 عاماً من احتلاله ليعلن فك الارتباط والانسحاب منه من جانب واحد تحت ضربات المقاومة، وذلك بعد أن سعت دولة الاحتلال لزراعة كل أنواع الانحطاط في القطاع على مدار سنوات احتلالها له وهو ما ذهب أدراج الرياح خلال لحظات، فأعيدت مشاهد ياميت مرة جديدة بعد كل هذه السنوات، ورأينا جنود الاحتلال يدمرون ويخربون المستوطنات التي بنوها فيه قبل خروجهم مع المستوطنين مدحورين لا يلوون على شيء ليأتي أحرار فلسطين لتطهيره من دنسهم!
اليوم ونحن نستذكر كل ذلك نرى كيف أن دروس التاريخ تعيد نفسها، وأن الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي لم يكن يوماً مرتبطاً بحزب أو بشخص بعينه، بل هو صراع حق وباطل، صراع سيبقى ما دام هذا الاحتلال يحتل شبراً من أراضينا دون وجه حق ويجرم في حق أهلها، وكما أي احتلال قائم على الإجرام وتزوير التاريخ والحقائق هو إلى زوال لا محالة مهما طال الزمن بإذن الله، فمهما تمادى في إجرامه بأهل غزة والضفة وكل فلسطين سيرحل يوماً عن كل شبر فيها، وسنرى مشاهد ياميت في سيناء 1982 وجنوب لبنان 2000 وغزة 2005 تتكرر مهما أقنعوا أنفسهم بغير ذلك، ومهما دمروا في غزة وعملوا على إعادة احتلالها وتحويلها لمنطقة عسكرية وزراعة كل أنواع الانحطاط فيها من جديد والإجرام بحق سكانها هم يعلمون قبل غيرهم علم اليقين أن كل حجر فيها قبل البشر سيبقى يلفظهم ويقاومهم إلى يوم الدين، وأنهم مهما فعلوا لا قرار لهم في أرض للأحرار، وأن أنفاس العزة والكرامة والصمود لدى أبطال فلسطين ستبقى تتجدد وتتوارثها الأجيال جيلاً بعد جيل تماماً كما هي في جينات كل أحرار وطننا العربي على كامل امتداده، حتى يأتي الجيل الذي سيرفع علم فلسطين فوق ترابها محررة عزيزة شامخة ويطهرها من دنس الاحتلال بإذن الله تعالى.