حين يُصاب القلبُ بالحياة

د. عمّار محمد الرجوب

ثمة لحظة لا تُشبه ما قبلها، ولا يشبهك ما بعدها. لحظةٌ تمسك فيها النفس بمرآتها، لا لتتزيّن، بل لتتعرّى. لحظةٌ لا تُقاس بالزمن، بل تُقاس بالزلزال الذي تُحدثه في داخلك، حين يُصاب القلب بالحياة، لا بالموت.

“الإنسان لا يُولد مرة واحدة، بل كلما تخطّى ما ظنّ أنه نهايته” – دوستويفسكي.
فليست الولادة خروجًا من رحم الأم، بل من أرحام الخيبة، من ضيق الرؤية، من جُبٍّ ألقيت فيه بكامل وعيك… وخرجت منه إنسانًا يشبهك أكثر، ويُشبههم أقل.

الشدائد لا تصنع الإنسان فحسب، بل تُعيد صياغته من حطام الروح. فالألمُ ليس نقمة، بل أستاذٌ قاسٍ، لا يُلقي دروسه على العابرين، بل على من تجرّأ أن يجلس في المقعد الأول.

في عصرٍ تحوّلت فيه القيمة إلى أرقام، والجوهر إلى محتوى قابلٍ للتمرير، صار الصمت مقاومة، والمعاناة وعيًا، والبُعد عن الضجيج طريقًا نحو النفس.

“ما الذي يجعل الإنسان إنسانًا؟ إنه الألم” – نيتشه.
فالألمُ ليس ندبة، بل لغة. وكل وجعٍ يُعيدك إلى ذاتك الأولى… قبل أن تُعلّمك الحياة كيف تتنكّر لنفسك لتُرضي الآخرين.

حين تنكشف لك الحقيقة فجأةً، لا يعود كل ما مرّ عبثًا. بل يُصبح المعنى أكثر وضوحًا… ويُولد فيك كائنٌ يرى بعينٍ ثالثة، لا تُبصر الشكل بل الجوهر.

“وحدهم الذين عبروا الليل، يُدركون نعمة الضوء” – سقراط.
في داخلك، إنسان لم تُصافحه بعد. إنسانٌ نجا من خيباته دون صراخ، وصعد سلالم الصبر دون ضجيج. ذاك أنت، لا كما يراك الناس، بل كما تتعرّف على نفسك حين تُغلق الباب، وتُنصت لنداءٍ يأتي من عمقٍ لا صوت فيه.

وأقول:
“من لم يُصب قلبه بالحياة بعد، لا يزال عابرًا في جسده، لا في زمانه.”

اصغِ لصمتك، فإن أجمل الحوارات تُدار بلا صوت.
ولا تخشَ الفقد، فبعض ما تظنه خسارة، هو تخفيفٌ لما لا يُحتمل.
الفراق قد يكون نجاةً، والتأخير رحمة، والخسارة غربلة… والغربال لا يظلم، بل يُصفّي.

لا تندم على ما غيّرك. فالماء بعد الغرق لا يعود إلى صفائه الأول، لكنه يتعلّم كيف يعانق الأعماق دون خوف.

لقد علّمتني الحياة أن من فقد شيئًا، ربح وضوحه.
وأن من تألم، اقترب من جوهره.
وأن من صبر، لم ينتظر، بل آمن…
أن كل ما له، سيأتيه وإن تأخر.

فإذا مررت بالليل، لا تطفئ قلبك… فإن النجوم لا تُرى إلا حين تُطفئ المدينة أنوارها.

سمعتُ صمتَ اللهِ في أعماقِ قلبي،
فذُبتُ لهفةً، وفُزتُ سكونا.
إذا انتبهتْ روحي لنبض يقينها،
علمتُ بأني كنتُ يومًا دفينا.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى