أمام سمو ولي العهد: التفرغ العلمي في جامعاتنا… فرصة ضائعة يجب أن تُستعاد

كتب أ.د. محمد الفرجات
لا يخفى على أحد مدى اهتمام سمو ولي العهد الأمير الحسين بن عبدالله الثاني بقطاع البحث العلمي والابتكار، وربطه الذكي بين تطور هذا القطاع وقدرة الأردن على بناء اقتصاد إنتاجي تنافسي، يقوم على المعرفة، ويواكب الثورة الصناعية الرابعة.
إن ما يطرحه سموه في خطاباته ولقاءاته يرسّخ قناعة راسخة: البحث العلمي ليس ترفًا أكاديميًا، بل هو أداة سيادية للنهوض الوطني.
في ضوء هذا التوجه الملكي الطموح، نجد أنفسنا أمام تساؤل محوري: هل تقوم جامعاتنا بدورها الحقيقي في دعم البحث العلمي؟ هل يتم صرف موازنة البحث العلمي بجامعاتنا؟
الجامعات الأردنية، وفق ما هو مرسوم لها، تضطلع بثلاثة أدوار جوهرية: التعليم، البحث العلمي، وتنمية المجتمعات المحلية. إلا أن الواقع يقول إن معظم مؤسساتنا الأكاديمية باتت تركّز على الجانب الأول – التعليم – وتهمش الجانب الأهم والأخطر: البحث العلمي التطبيقي، الذي يشكل رافعة أساسية للتنمية الاقتصادية والصناعية والتكنولوجية.
التفرغ العلمي… شح الفرص وطنيا، وخلل في التطبيق لا في الفكرة:
تُمنح إجازات التفرغ العلمي للأساتذة الجامعيين (وهي شحيحة جدا جدا وغالبا ما يشوبها للأسف التنفيع بعيدا عن الشفافية) بهدف إتاحة الفرصة لهم للإنتاج البحثي، وتبادل المعرفة، وتطوير الذات والمؤسسة. لكن الواقع لا يعكس هذا الهدف النبيل.
ففي معظم الحالات، يُستقطب الأستاذ الجامعي خلال سنة التفرغ لغرض التدريس في جامعة أردنية أخرى، دون أن يُخصص وقت كافٍ أو بنية بحثية حقيقية لإنتاج معرفي جاد. البحث الوحيد الذي يُنجز غالبًا، يعتمد على بيانات متوفرة سابقًا، وتغيب عنه عناصر الابتكار والتعاون العلمي الجاد. أما المختبرات والتجهيزات، فغالبًا ما تبقى غير مستغلة، وتنعدم فرص تبادل الخبرات والتكامل بين الزملاء في القسم المضيف.
نحو نهج وطني سنوي للتفرغ والتبادل العلمي:
هنا، نطرح ضرورة تحويل التفرغ العلمي من حالة استثنائية محدودة، إلى نهج سنوي مؤسسي واسع النطاق، يستقطب مئات الفرص سنويًا للتفرغ والتبادل العلمي بين جامعاتنا الأردنية الحكومية والخاصة، كجزء من إستراتيجية وطنية لتعزيز الإنتاج العلمي، وإشعال شرارة الابتكار.
هذا النهج يجب أن لا يُترك للمجاملات أو العلاقات الشخصية، بل ينبغي أن يتم عبر آلية شفافة، قائمة على الكفاءة والمقترح العلمي المقدم، وذلك من خلال:
تشكيل لجان وطنية مستقلة مشتركة من الجامعات ووزارة التعليم العالي والمراكز البحثية.
فتح باب التقديم والترشيح بشكل سنوي ومنظم.
دراسة المقترح البحثي للأستاذ بدقة، من حيث أهدافه ومنهجيته وأثره الأكاديمي والتطبيقي.
تقييم الجامعة المستضيفة، والتأكد من قدرتها على احتضان البحث وتقديم الدعم العلمي والمختبري.
تحديد المخرجات المتوقعة بشكل واضح: أوراق بحثية، نماذج أولية، شراكات أكاديمية، براءات اختراع، تطوير مناهج… وغيرها.
بهذا الشكل، نعيد إحياء فكرة التفرغ العلمي كمنصة لتجديد الدماء الأكاديمية، وتدوير الخبرات، ورفع مستوى الإنتاجية العلمية، وبناء جسور الثقة والتكامل بين جامعاتنا الوطنية.
استثمار في عقل الدولة:
إننا نتحدث عن استثمار مباشر في “عقل الدولة”، حيث الأستاذ الجامعي هو العنصر الأهم في معادلة الاقتصاد المعرفي، والتفرغ العلمي الجاد هو أداته للنهوض، والإبداع، ورفد الدولة بمشاريع ومقترحات قد تغيّر واقعنا الصناعي، أو الزراعي، أو التكنولوجي، أو حتى البيئي.
فابتكار واحد فقط، أو دواء، أو تقنية جديدة، قادر على مضاعفة الناتج المحلي، وخلق وظائف، وإعادة تموضع الأردن إقليميًا وعالميًا. ما فعلته شركات مثل “فايزر” و”فيسبوك” انطلق من مقاعد البحث العلمي، ونحن لسنا أقل قدرة.
رسالة إلى سمو ولي العهد:
نضع هذا الملف أمام سموكم، لثقتنا برؤيتكم الثاقبة، وإيماننا بأن دعمكم سيحول هذا التحدي إلى فرصة وطنية كبرى.
كما نثمن انفتاح معالي وزير التعليم العالي، وندعو إلى عقد ورشة وطنية كبرى، تُعيد رسم ملامح التفرغ العلمي في الجامعات الأردنية، وتجعل منه رأس حربة في معركة التقدم والتحديث.
فلا اقتصاد معرفي دون بحث علمي جاد، ولا بحث علمي جاد دون تفرغ علمي منتج… شفاف… وعابر للشخصنة.