“كما لا يحب ابي ان يراني” الأنثى العربية و قصصها..
سونا بدير
تقدم لنا القاصة رانية الجعبري في مجموعتها القصصية الجديدة، الصادرة عن دار (نلسن) تحت عنوان (كما لا يحب أبي أن يراني)، رؤيتها لذاتها، والآخر، والكون، انطلاقاً من خطوط فكرية واضحة وثابتة.
فقصصها الثلاث عشرة تروي قصة واحدة في النهاية؛ فهي قصة الأنثى العربية، قصة عشتار التي تخط الحياة والتجدد والتجذر بأسمى صورها، فجعلت الجعبري من التفاصيل الحياتية كاشفاً للمعاني الوجودية التي تحركنا، فلا نجد في قصصها صراخًا صاخبًا، فهي لا تعرض لنا قضية المرأة بمعزل عن قضايا مجتمعها بل تحاول بيان العلاقة التبادلية بين ما يمر به المجتمع من منعطفات سياسية واقتصادية ودينية وما تمر به المرأة من تغيير.
ولأن قضايا المرأة لا تشكل ألماً ذاتيا لها فقط – فالمرأة كما تراها القاصة هي رمز للحب والعطاء والتجديد، وهي بذلك تعكس ألم الأمة – فقد استنطقت في قصصها الجمادات لتحكي لنا القصة، فجل شخصياتها من الجمادات التي تشارك المرأة حياتها السرية الحميمية، فشخّصت علب الزينة والأقراط والخواتم والأحذية والمسامير، وجعلت منها معادلا موضوعيا لمشاعر المرأة وفكرها، وكيف لا .. والطاقة الأنثوية هي الخالقة الواهبة للحياة!
ويكشف العنوان موقف القاصة الرافض للسلطة الذكورية البطريركية، وقد جعلت لفظة أبي معادلًا موضوعيًّا لهذه السلطة، وهذا ما نوّهت له القاصة في الصفحات الأولى من المجموعة، وبهذا العنوان تحدد الجعبري الخطوط العريضة التي تنطلق منها قصصها وشخصياتها، فهي تريد بحكاياتها أن تتلمس تفاصيل الحياة الأنثوية بكل ما فيها من أسرار وزوايا دفينة.
فتقف في قصة (صندوق البهجة) على علاقة المرأة مع جسدها و أنوثتها، فتفتح بطلة قصتنا صناديق البهجة والزينة لينفتح أمامها عالم من الجمال والسعادة، فتقول: «تتأملها الصناديق؛ فتشعر أنّ صندوقًا بهيًّا يتفتح أمامهم، فتبدو منه أنثى سعيدة، ما كانت لتورق هكذا لو لم تكن البهجة غذاءها وماءها.»
ولكنّ المرأة كما تراها الجعبري تعرضت للحرمان من هذه البهجة الفطرية، فتصفعنا القاصة بالسؤال في نهاية القصة: «من أقفل صندوق البهجة ؟!»، إلّا أنّها لن تترك السؤال معلقًا في وجوهنا دون جواب، فهي تعرض الإجابة في القصص التالية.
وقد تكون القصة الثانية في المجموعة (المسمار) أكثر قصة تعبر عن إجابة السؤال في القصة الأولى؛ فقد جعلت الجعبري من المسمارين الكبيرين المثبتين على جدار بجانب أحد محلات عمان القديمة، شاهدين على تغير المجتمع دينيًّا وسياسيًّا، وأثر التغير على المرأة وحريتها، و قد عرضت القصة هذا التغير على ثلاث مراحل، فجاءت المرحلة الأولى حيث كانت الأنثى محاطة بالحب والجمال، والمذياع يبثّ صوت شاديا، والأبطال يتحدثون عن موعد حفلة الست، وهي إشارة إلى مرحلة الستينيات؛ حيث كان المجتمع العربي مفعمًا بأحلام الدول القوية، بعيدًا عن الإسلام السياسي الذي يشكل المرحلة الثانية في القصة. وتجعل القاصة من أوبريت الحلم الحربي الذي يبثه المذياع رمزًا لتلك المرحلة التي يغرق فيها الوطن العربي بهمومه، ويغيب الحلم والطريق، وينعكس ذلك على المرأة، فيظهر لنا مشهد فتاة وصديقتها ترتديان ما لا تريدان، ثم تعرض المرحلة الثالثة التي تختار منها معاناة أطفال اليمن، والحروب الأهلية، حيث وصل المجتمع إلى مرحلة الصدأ، «هذا الصدأ الذي يلتهم كل شيء ويلغيه، كيف لم يتمكن منهما حتى الآن؟ كل شيء يتغير هنا إلا هذين المسمارين»، ويظهر هنا مشهد ثالث لأم وابنتها، حيث تقرّر الأم منح ابنتها الحرية التي لم تتمتع هي بها.
ولم تهمل الجعبري خصوصية العاطفة الأنثوية، فكشفت مشاعر المرأة بالغربة والضعف والوحدة والحاجة، فهذه الأنثى التي «اعتادت في حياتها توقع كل شيء، إلا أن يصيب مخزن ذاكرتها تغيير»، فقد أنسنت الأنثى كل ما حولها من جمادات، فجعلت من سيراميك الحمام و جدرانه مخزنا لذكرياتها ومشاعرها وقصصها؛ و «كانت الجدران تبتسم ، ولم تشِ لأحد بما فعلت».
فهذه الأنثى التي تواجه صراعًا بين ذاتها الخلّاقة للجمال وما تفرضه السلطة المجتمعية والدينية، اختارت لنفسها قرآنها ومقدّسها، «لم أسمعها تقرأ في صلاتها، أو أثناء تلاوتها، كلمة (حور عين)»، وتصالحت مع حاجتها للتّجمل بتصالحها مع ملقط الحواجب الذي يستعيد ذاكرته بعد هجر، كل ذلك وهذه الأنثى لم تجعل صراعها مع الرجل فـ «ما تفكر به كان أبعد من صلاة والدها، لكنه أقرب إلى صراخ امرأة على التلفاز فقدت أبناءها»، لذلك كان التمرد في القصص خفيفا منسابا في تفاصيل الحدث اليومي للمرأة العربية دون مواجهة صارخة للآخر.
فالأنثى في قصص الجعبري متعالية على الصراع من خلال ممارسة الحياة والحب، وكل ما حولها شاهد على قدرتها و تمردها ورغباتها؛ فالوسادة تحلم بحضنها «أحب أن لا يكون لرأسها ملاذ إلا صدري»، فهي تتفاعل مع كل ما حولها خالقة واقعًا جديدًا يستنطق الجمادات، ويحاكي الطبيعة التي تنسجم وفطرة المرأة، وتتواطؤ معها، «كانت تجلس قبالة النافذة، وورقة لوز غضة لا تميز إن كان النوار الحقيقي هو ذلك النوار الذي يجلس إلى جانبها، أم تلك الخدود التي تورق خجلًا، وحبًّا أمامها ..».
واعتمدت القاصة على تكثيف اللغة وترميزها، والتنويع في الأساليب السردية. أما الزمن والمكان، فهذه القصص وإن خصّت عمان بالذكر، فهي تحكي قصة المرأة العربية عبر مراحل سياسية مختلفة.
وتجدر الإشارة هنا أنّ قصص هذه المجموعة ذُيّلت بتاريخ الكتابة، وهذا ما لم نعتده في المجموعات القصصية، وربما أرادت الجعبري بذلك أن تظهر الامتداد التاريخي لقصصها، فقد كتبت هذه القصص ما بين عامي 2014 و 2019، ورغم هذا الامتداد الزماني إلا أنه تُلاحظ وحدة الرؤيا وثباتها، ونضوج المنهج.
وقد جاءت لوحة الغلاف التي صمّمها بهاء سلمان مرآة لهذه الرؤيا؛ فالغلاف يظهر وجه المرأة بشقّيه الظاهر والخفي؛ الوجه الظاهر المتمثل بالعين المفتوحة على الواقع، الراصدة له، والمتأثرة به، والوجه الخفي المتمثل بحقيقة الأنثى عشتار التي تحمل جرة الماء التي تروي بها ما حولها فتبثّ الحياة، وتخلق الخضرة.
جريدة الدستور الاردنية https://www.addustour.com/articles/1199290-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%86%D8%AB%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D8%A9-%D9%88%D9%82%D8%B5%D8%B5%D9%87%D8%A7-%D9%81%D9%8A-%C2%AB%D9%83%D9%85%D8%A7-%D9%84%D8%A7-%D9%8A%D8%AD%D8%A8-%D8%A3%D8%A8%D9%8A-%D8%A3%D9%86-%D9%8A%D8%B1%D8%A7%D9%86%D9%8A%C2%BB-%D9%84%D8%B1%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%B9%D8%A8%D8%B1%D9%8A