لقاء ملكي عاجل مطلوب مع خبراء المياه… لمواجهة العام الأكثر جفافاً

كتب أ.د. محمد الفرجات
حقيقة: الوضع المائي في الأردن سيكون الأشد صعوبة منذ عشرات السنوات
مع تراجع معدلات الهطل المطري لمستويات غير مسبوقة، وانخفاض مخزون السدود، وتزايد الضغط السكاني، والضخ الجائر من الأحواض الجوفية، يواجه الأردن هذا العام أشد أزماته المائية منذ عقود. كل المؤشرات العلمية والواقعية تنذر بأننا على أعتاب موسم جفاف قاسٍ، لا يهدد فقط الأمن المائي، بل يتعداه إلى الأمن الغذائي، والاستقرار الاجتماعي، والقطاعات الحيوية كافة.
في ظل هذا الواقع، بات لزامًا الدعوة إلى لقاء ملكي عاجل يجمع نخبة من الخبراء والاختصاصيين في قطاع المياه والبيئة والزراعة، لتقديم صورة دقيقة ومجردة عن حقيقة ما يجري، ووضع خارطة طريق واضحة ومبنية على العلم والخبرة، تتجاوز ردات الفعل المؤقتة، وتؤسس لنهج استراتيجي جديد في التعامل مع الشح المائي.
أزمة تتفاقم… ولا وقت للمجاملات
أرقام وزارة المياه نفسها تؤكد أن بعض السدود لم تستقبل أكثر من 10% من طاقتها خلال الموسم المطري الأخير. وخزان الديسي، الذي يعتمد عليه ما يزيد عن نصف سكان الأردن، يتراجع كمياً ونوعياً بسبب الضخ المفرط دون تعويض طبيعي. أما الحصاد المائي، فلا يتجاوز كسوراً من احتياجاتنا، بينما شبكات التوزيع لا تزال تهدر ما يصل إلى 40% من المياه نتيجة الفاقد الفني والإداري.
تبعات تهدد الأمن الوطني
هذا التراجع الحاد في الموارد المائية لن يبقى محصوراً في قطاع واحد، بل ستكون له انعكاسات مباشرة وخطيرة على معظم مفاصلل الاقتصاد الوطني:
الزراعة: سيضطر آلاف المزارعين إلى تقليص الإنتاج أو التوقف كلياً، مما سيؤدي إلى شح في الخضروات والفواكه، وارتفاع كبير في أسعارها، وزيادة الاعتماد على الاستيراد.
الأمن الغذائي: مع تراجع الزراعة وارتفاع الأسعار، تتعمق الفجوة الغذائية، ويُصبح الوصول إلى الغذاء الكافي والنوعي تحدياً لشرائح واسعة من المجتمع.
الصناعة: العديد من الصناعات تعتمد على المياه في عملياتها الإنتاجية (كالنسيج، والمشروبات، والمعادن)، وأي انقطاع أو تقنين سيؤدي إلى خسائر تشغيلية.
السياحة: نقص المياه سيضعف تجربة الزائر في المواقع السياحية، ويؤثر على خدمات الإيواء والنظافة، ما قد ينعكس سلباً على سمعة الأردن كوجهة سياحية.
البلديات والمجتمعات المحلية: ستواجه ضغوطاً في تلبية الطلب المتزايد على المياه، مع تصاعد التوتر المجتمعي في حال تكرار الانقطاعات أو تراجع العدالة في التوزيع.
الصحة العامة: شح المياه قد يؤدي إلى ممارسات تخزين غير صحية، وزيادة في معدلات التلوث والأمراض المرتبطة بالمياه.
ما المطلوب؟
1. لقاء ملكي موسع مع الخبراء ممن يملكون الخبرة العملية والمعرفة العلمية، بعيدًا عن المجاملات.
2. إعلان حالة طوارئ مائية تفرض سياسات حازمة في التوزيع، والرقابة على الآبار، وتقنين الاستخدام.
3. تسريع المشاريع الإستراتيجية الكبرى مثل الناقل الوطني، والتحلية، وربط مصادر بديلة.
4. تعزيز ثقافة الترشيد المائي ببرامج تعليمية ومجتمعية تبدأ من المدارس والجامعات.
5. إعادة النظر في أولويات استخدامات المياه بين الزراعة والصناعة والسكن.
الأردن على مفترق طرق حقيقي. والخطر المائي ليس مؤامرة، ولا تنظيراً، بل حقيقة علمية يومية نعيشها. والفرصة ما زالت قائمة، لكنها تحتاج إلى قرار سيادي جامع، ومصارحة، وحشد للعلم والخبرة، قبل أن نجد أنفسنا في مواجهة العطش الوجودي.
لقاء ملكي مع نخبة الخبراء، اليوم قبل الغد، قد يصنع الفارق بين صيف قاسٍ… ومستقبل مستدام.
وبصفتي من المهتمين والمختصين في الهيدروجيولوجيا والجيوفيزياء الاستكشافية وتقييم مصادر المياه الجوفية منذ ما يزيد عن ربع قرن، ومع مشاركتي في تقييم عدد من الأحواض الاستراتيجية وأبحاث التغير المناخي المائي، أؤكد أن الوقت لم يعد يسمح بالتردد، وأن الكفاءات الوطنية موجودة، وتنتظر فقط أن يُفتح لها الباب لتقول الحقيقة وتُسهم في الحل.