الفرجات يكتب : رسالة شفوية من الحسين لم يسمعها سوى الملك، ويستحضرها في العاتيات

أ.د. محمد الفرجات
حين تُمحص التاريخ الأردني الحديث، وتراقب كيف واجهت المملكة العواصف واحدة تلو الأخرى، يبرز قائد لم يكتف بالجلوس على العرش، بل حمل في قلبه إرثاً وفي عقله وصية، لا يعرف تفاصيلها أحد سوى الله تعالى ومن ألقاها إليه في لحظة مصيرية… لحظة وداع بين ملكين.
كانت تلك الرسالة الشفوية التي نقلها الحسين بن طلال طيب الله ثراه لابنه عبدالله على فراش المرض ولحظات الوداع الأخيرة، خلاصة حكم امتد نحو نصف قرن، ونبع من تجربة طويلة في بناء دولة عصية على الانكسار. لم تكن الرسالة طويلة، فالوضع الصحي لم يسمح، لكن كلماتها القليلة كانت كافية لتكون بوصلة نهج ومسار.
ثلاثة مبادئ… خريطة النجاة:
منذ تسلم جلالة الملك عبدالله الثاني سلطاته الدستورية قبل ربع قرن، ظهرت معالم “الرسالة الشفوية” في سلوكه القيادي، وكأنها خارطة وبوصلة لا يحيد عنها مهما اشتدت العواصف. وهي قائمة على ثلاثة مبادئ:
1. اتخذ قراراتك كملكٍ ابن ملكٍ ابن ملكٍ ابن ملك… ابن شريف من آل بيت النبي محمد صلى الله عليه وسلم…
وهذا تأصيل للشرعية المتجذرة في النسب والتاريخ، ودعوة للثبات والثقة والكرامة في اتخاذ القرار، مهما كانت التحديات.
2. الرحمة واللين حيثما وجب
في التعامل مع الداخل، في لمّ الشمل، في العفو عند المقدرة، وفي منح الفرص للإصلاح والبناء.
3. الحزم والشدة عندما يُخدش الوطن أو تهدد سيادته
في محاربة الإرهاب، وفي فرض الأمن، وفي التصدي للمؤامرات.
العاتيات: كيف تعامل معها الملك؟
الـ”عاتيات” – أي الشدائد الكبرى – لم تكن قليلة في عمر المملكة. لكن قراءة طريقة تعامل الملك معها، تكشف أثر الرسالة الخفية:
الأزمة الاقتصادية العالمية والربيع العربي:
حافظ على الدولة من الانهيار، عبر توازن داخلي مدروس، وإصلاحات مدنية مدروسة، دون التضحية بالثوابت.
تفجيرات عمان (2005):
كانت لحظة فاصلة، والرد الملكي لم يكن مجرد أمنياً، بل أعاد تعريف “الأردن الآمن”، وتحوّل إلى نموذج عالمي في مكافحة الإرهاب.
ملف موجات وضغوطات اللجوء من تبعات الربيع العربي:
تعامل إنساني عميق، مع حفاظ على النسيج الاجتماعي، دون الوقوع في فخ التمييز أو الخطاب الشعبوي.
صفقة القرن:
وقوف حازم، أبلغ فيه الملك المجتمع الدولي أن لا تنازل عن القدس، ولا مساومة على الحق الفلسطيني، فكان صوته أعلى من صفقة لم تولد.
المخدرات العابرة من الحدود الشمالية:
تم الدمج بين الحزم العسكري، والعمل الاستخباري، والدبلوماسية الإقليمية، دون ضجيج أو انفعال.
ملف كورونا:
قرارات جريئة في وقت قصير، وتكامل مدني-عسكري، وتوجيه الموارد لحماية الأرواح والاقتصاد معاً.
الإصلاح السياسي والاقتصادي
رغم التحديات المختلفة، حيث مضى الملك بخطى ثابتة نحو تحديث المنظومة السياسية، وتحديث الدولة، وفتح الأبواب للشباب والمرأة، لتواكب المملكة العصر، مع الحفاظ على الثوابت.
ما بين الأب والابن… خلاصة حكم وصناعة مستقبل:
الملك الحسين، وهو يسلّم الراية، لم يسلّم فقط سلطات دستورية، بل سلّم نهج حكم لا يظهر في الدساتير، بل في المواقف. وقد حملها الملك عبدالله الثاني بإيمان راسخ، وبقي يستحضرها، خاصة في العاتيات، حيث تتجلى الحكمة وتُصقل الزعامة.
هذه الوصية غير المكتوبة، هي التي جعلت الأردن وطناً مستقراً وسط إقليم مضطرب، ودولة لكل أبنائها من شتى المنابت والأصول، وهي التي تؤسس اليوم لمستقبل ذات منعة، لا مكان فيه للتشاؤم أو الإقصاء.
إنها رسالة في العاصفة، لا يسمعها إلا من صيغت لأذنه فقط، ولا يطبقها إلا من صيغ قلبه على حب وطنه كما صيغت قلوب الهاشميين منذ بدايات التاريخ.